رسالة إلى المتبعين لفتوى الشيخين (العدوي والنقيب) في الجزء الأول من ذلك المقال .. رأينا كيف أن نسبة عالية من القائلين (لا) لمسودة الدستور قد قالوها بناء على خطة تشويهية ممنهجة من قبل الإعلاميين ومن خلفهم .. ليس لتشويه الدستور ذاته .. وإنما لتشويه عقول الناخبين .. وتزييف الحقائق .. وافتراء الكذب. وفي هذا المقال نتناول وجهًا مشوهًا آخر لتلك ال (لا) .. وإن كانت حساسيتها بالنسبة لي أشد .. واجترائي على الكتابة فيها قاس على نفسي .. وما ذلك إلا لأني سأتعرض فيها لفتاوى علماء كرام .. أرى نفسي أقل شأنا من أن أناطحهم في علمهم .. لكن حسبي في ذلك أني تعلمت على يدهم أدب الحوار .. والنقاش البناء .. وتشربت منهم معنى قول الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ .. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). تناقل بعض شباب الصحوة الإسلامية فتاوى الشيخين الفاضلين (الشيخ مصطفى العدوي والشيخ أحمد النقيب) والتي تصف مسودة الدستور بأنها غير شرعية .. وتهدم بنيان تحكيم الشريعة الإسلامية .. ولم أتعجب حينما اطلعت على سعادة فئة العلمانيين والليبراليين ومن انضم إلى صفهم بتلك الفتاوى، وعملوا لقلة عقلهم وحمقهم، أو لمكرهم ودهائهم على نشرها أكثر من شباب الصحوة أنفسهم .. ودافعهم في ذلك صرف قطاع من الشعب وليس فقط من الإسلاميين عن قول (نعم) للدستور. ورغم تمام تناقض الدافع بين الفريقين فريق الشيخين وفريق العلمانيين إلا أن العلمانيين ينظرون إلى النتيجة التي يريدونها .. وهي تكثير سواد القائلين (لا) بأي سبيل حتى يسقطوا الدستور ويكملوا بقية خطتهم، فإذا كانوا قد تحالفوا مع شياطين الإنس لتحقيق مآربهم .. فلن يضيرهم أن يستعينوا بنصائح ملائكية لتحقيق نفس النتيجة. وأبدأ إساءة الأدب فأقول: يؤسفني أن يفطن العلمانيون لما لم يفطن له المشايخ وطلبة علمهم .. فقد عرف العلمانيون ما هو واجب الوقت بالنسبة لهم .. علموا أن المهم في تلك المرحلة هو إطالة فترة الفوضى والفراغ المؤسسي للدولة لأطول مدة ممكنة .. لكي يتوفر لهم الوقت الكافي لإكمال مشروعهم العلماني المبني في الأساس على إعادة إنتاج نظام مبارك الساقط .. لكن في صورة أخرى. وسبيلهم في إطالة المدة هو (إسقاط الدستور الحالي). هكذا بمنتهى البساطة .. فدافع رفض الدستور لديهم ليس هو مواده أو السلطات الممنوحة للرئيس .. ولا حتى مسألة الشريعة .. إنما هي مسألة (توفير الوقت اللازم لتحقيق أهدافهم). فإذا كان عدوك يفكر بتلك الطريقة فلابد أن تبني خططك بناء على استيعابك لخطة عدوك .. وليس فقط بناء على ما توفر لديك من علم وفقه بالأحكام الشرعية. وأدلل على ذلك بمثالٍ من التاريخ .. شيخ الإسلام وإحدى الطرق في صد عدوان التتار.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين؛ أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة بل يصده عن الكفر والفسق، وأما للمسلمين؛ فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء؛ فيكون ذلك خيراً للمؤمنين، وليس هذا إباحة للخمر والسكر، ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما؛ ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة بل عن الكفر والفساد في الأرض، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء وذلك مصلحة للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو بل قد يستحب أو يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره) .انتهى. فإصدار الفتاوى لدى الشيخ المجاهد ابن تيمية لم يكن مصدره فقط هو الدليل الشرعي .. وإنما جمع مع ذلك فقه الواقع وفهم العدو وخططه .. فرأى أن إيصال الخمر الذي هو من الكبائر إلى عدوه فيه خير .. بل قد يصل إلى وجوب إيصال الخمر لهم .. وذلك تفويتا لفرصة الاستفاقة جالبة الشر على المسلمين. هذا أمر.. الأمر الثاني .. مسألة حساسة وهي مسألة (تحديد واجب الوقت بدقة) .. والمقصود بكلمة واجب الوقت هو (ترتيب الأولويات المرحلية) فتطبيق الشريعة واجب الوقت وكل وقت .. نعم .. إلا أنه واجب قابل للتجزئة والمرحلية وفقًا للظروف والمتغيرات .. ففارق كبير بين مرحلة التمكين التام وبين مرحلة الاستضعاف الجزئي .. وهذا كلام يحتاج إلى شرح ونقاش طويل .. لكن للتوضيح البسيط .. انظر مثلاً إلى الحملة الشرسة التي صنعها الإعلام على الدستور بوضعه الحالي .. والذي لا يرضى عنه الإسلاميون بنسبة 100% .. هذه الهجمة الشرسة آتت أكلها بالفعل .. حيث صوت 43 % من المصريين لصالح رفض الدستور .. والمؤشرات تقول إن هذه النسب ليست لأنهم غير مقتنعين بالدستور .. وإنما لتأثرهم بكلام الإعلاميين الفاسدين. فما بالك باشتداد هذه الحملة في حال المجيء بدستور يشتمل على كل ما نتمناه كدعاة وإسلاميين في هذه المرحلة الحرجة؟!! إذن يصبح واجب الوقت الآن ليس هو السعي وراء إيجاد الدستور الشرعي الكامل .. خاصة وأن الدستور ليس كتابًا منزلاً لا يقبل التعديل والتغيير .. بل هو قابل للتغيير متى ما توفرت الإرادة الشعبية لذلك. إنما يكون واجب الوقت هو استثمار الآليات المتوفرة في أرض الواقع لدفع مصر نحو الدولة التي ترضي الله تبارك وتعالى .. ليس في باب الدستور والقانون فقط .. وإنما في كل أعصاب حياة الناس. الأمر الثالث .. جمهور العلماء المعاصرين قد رأوا أن مصلحة الدستور الحالي أكبر من مفسدته .. بل إن مفسدة رفضه بناء على اختيارهم هي مفسدة غالبة .. وقد أحسنوا في ذلك ولا شك .. ولا أدل على ذلك من استشاطة غيظ الكتلة المضادة للفكرة الإسلامية طيلة الفترة السابقة .. بداية من انسحاب كبرائهم من اللجنة التأسيسية .. مرورًا بأحداث القتل والعنف المفتعلة .. وانتهاء بدعوتهم جموع الشعب للخروج على الشرعية. واجتماع جمهور العلماء على قول اجتهادي لهو من أقوى الأسباب التي تجعلنا نثق في رأيهم .. ونستضيء بما اهتدت له عقولهم .. لذا .. فإن اتباع قول الشيخ العدوي أو الشيخ النقيب في مسألة رفض الدستور هي مسألة فيها نظر .. فللشيخين أن يتبنوا القول الذي يريدونه .. أما أن يوجهوا الأمة له .. وينشروا ذلك على الفضائيات .. معارضين بذلك قول جمهور العلماء والدعاة فأرى أن تلك مسألة أيضًا فيها نظر. لذا .. فإن كلمتي أوجهها لشباب الصحوة الكرام .. ممن اقتنعوا بكلام الشيخين .. أقول: أحسنتم يوم أن وثقتم بمشايخكم .. واتبعتم هديهم .. وسرتم في نور علمهم .. إلا أني أذكركم بما علمكم مشايخكم أن (كلٌّ يؤخذ منه ويرد إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم) .. فلا يوجد حرج شرعي في رد رأي عالم كالشيخين والميل إلى رأي عالم آخر .. وليس في ذلك خروجًا عن الشريعة .. بل هو تطبيق للقواعد الشرعية الضابطة للمسائل الخلافية. فإن اقتنعتم بعد مقالي أن قول (نعم) هو الأوفق والأصلح .. فافزعوا في الأيام القادمة لدعوة جموع الشعب لذلك .. فإن لكم لديهم وجاهة وثقة .. وهبكم الله إياها .. فأدوا زكاتها .. وانصحوا الأمة .. لما فيه الخير والصلاح .. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]