إذا تأملت حال النخبة الليبرالية في واقعنا السياسي والفكري اليوم – وجدت أنها تعاني من حالة فصام وازدواج في المواقف الفكرة والسياسية؛ فهي تقول ما لا تفعل ، وتفعل خلاف ما تقول ، وليس هذا في قضية واحدة أو موقف معين ، بل يتتابع يوميا في قضايا شتى وأحداث تترى . وقد أشرت سابقا وأشار كثيرون غيري إلى موقف النخبة المتناقض مع الديمقراطية؛ إذ ظلت تنادي بها وبضرورة الاحتكام للصندوق ، ثم انقلبت عليها ولعنت نتائجها عندما أتت بما لا تهوى أنفسُها، وزعمت أن اختيار الشعب يثبت أنه ليس أهلا للديمقراطية! ومن ثمّ باركت المؤامرة الفلولية للإطاحة بمجلس الشعب المنتخب، وسعت بكل الطرق- ولا تزال- لإفشال الجمعية التأسيسية، التي كانت تريد أن تفرض رؤيتها الفكرية عليها وإن كانت تلك الرؤية مخالفة لتطلعات السواد الأعظم من الشعب. وفي باب الحريات الذي يذهب فيه الليبراليون كل مذهب ويركبون فيه كل طريق، ولا يبالون في ذلك بقيم دينية أو أخلاقية تكون سقفاً للحريات، وتحد منها إذا خالفت قيم المجتمع وهددت استقراره – في هذا الباب أيضا نجد التناقض في أوضح صوره وأجلِّ معانيه؛ فهم ينادون – مثلا- بضمان حرية معاقرة الخمر، وارتداء البكيني وسائر ما يحلو للمرأة لبسه، وإن كان خادشاً للحياء العام أو مثيراً للغرائز، لكنهم في نفس الوقت يقومون بهجمات شرسة على شعيرة إسلامية مثل ارتداء النقاب ، ويمارسون إرهابا فكريا ضد المنتقبة التي اختارت أن تغطي وجهها ، ويرون أن ذلك رجعية وغير داخل في باب الحريات التي ينادون بها، مع أن القاعدة التي ارتكزوا عليها في إباحة ما أباحوا تلزمهم أيضا في اعتراضهم على ما اعترضوا عليه. وفي الموقف من الدين والجماعات والتيارات الدينية نجد نفس هذه الحالة والشخصية المتناقضة؛ فهم ينادون بإبعاد الدين عن السياسة ، وألا يكون لدور العبادة أي دور في توجيه الرأي العام السياسي، لكنك عند التأمل ، بل وبدون تأمل، ومع الاستعراض العاجل لموقفهم من نشاط دور العبادة عند الجانب الإسلامي ونشاطها عند الجانب المسيحي، تجد عجباً وحيرة يملكان عليك تفكيرك ، فالنقد الليبرالي للنشاط الديني في دور العبادة وتعلقه بالسياسة مقتصر على ما كان منه في الجانب الإسلامي، أما في الجانب المسيحي فجهاز النقد والاستنكار الليبرالي معطل تماما، ولا يعلق - حتى ولو على استحياء - على عمليات الحشد السياسي التي تقع باستمرار في الكنائس، بل الأدهى والأشد غرابة أن النخبة تعقد ندواتها المتعلقة بإبعاد الدين عن السياسة ، أو المتعلقة بموقف سياسيٍ ما لهذه النخبة – تعقده داخل قاعات الكنائس وبعد القداس والصلوات؛ وكأن دور العبادة المسيحية منظمات مدنية تابعة للتيار الليبرالي! وهذا الموقف الليبرالي ليس مقتصرا على الرضا وإغضاء الطرف عن لعب الكنسية دورا كبيرا في الحياة السياسة، ومحاربة قيام المسجد بنفس هذا الدور، بل الأمر يتعدى ذلك بكثير؛ فالعقل الليبرالي عنده استعداد دائم للتربص والسخرية والاستهزاء بالموروث الثقافي الإسلامي ، ومطاردة مظاهره والدخول في حروب إعلامية منزوعة الشرف والميثاق من أجل تشويهه وإظهاره بمظهر العدو الأصيل والعقبة الكؤود في سبيل أي نهضة اقتصادية أو تنموية أو حضارية، كما يعمل الليبراليون على اصطياد أخطاء المنتمين للمشروع الإسلامي ، واستباحة تلفيق التهم لهم وترويج الأكاذيب بحقهم لخلق صورة ذهنية سلبية عنهم لدى الرأي العام، في الوقت الذي لا نرى أي نقد أو سخرية من المظاهر والشعائر المسيحية حتى وإن تنافت مع العقل الليبرالي جملة وتفصيلا. كما لا نرى سخرية ولا استهزاء برجال الدين المسيحي، لا من أزيائهم السوداء ولا لحاهم الطويلة، على حين يمثل الجلباب الأبيض واللحية الإسلامية مادة من أخصب مواد التشنيع والاستهزاء والكراهية في النقد الليبرالي. بل هناك ما هو أكبر من كل ذلك؛ فإننا نجد العقل الليبرالي عندنا قد سلَّ سيوف النقد الحادة على التشريعات الإسلامية الواحدة بعد الأخرى ، وذهب إلى أنها في تقاطع كامل مع حقوق الإنسان والمكتسبات المدنية، بينما يلتزم الصمت التام عن التشريعات المسيحية ولا يرى فيها تضادا ولا تصادما مع حقوق الإنسان ، حتى في قضايا غاية في الظهور وتمثل مشكلة متجددة ومعاناة مستمرة لآلاف المواطنين المسيحين ، كما في مسألة تحريم الطلاق. وإن تعجب، فعجبٌ نعومة الليبراليين مع قادة الكنيسة الذين كانوا يحتجزون المتحولات إلى الإسلام ويعذبونهن حتى يعدن إلى المسيحية، ومع هذا كله بقيت علاقة الصداقة والحميمية بين رموز الليبراليين ورموز الكنيسة ، بل أعلن بعضهم تأييده ودعمه لرأس الكنسية السابق عندما خرجت المظاهرات المنددة باحتجازه للمتحولات إلى الإسلام، وجعله الكنيسة دولة داخل الدولة. أما في باب حرية الصحافة والتعبير فلا يختلف الأمر كثيرا؛ فحرية التعبير عند الليبراليين قاصرة على ما كان يخدم الفكرة الليبرالية، لا سيما ما كان فيه تجديف وتمزيق للهوية الإسلامية، ومتى ما تعرضت هذه الحرية لأي مضايقات رسمية، أو انتقادات شعبية لهجت الألسنة الليبرالية بالتباكي على حرية التعبير، واتهمت المعبرين عن رأيهم برفضها بأنهم فاشيون إقصائيون، ووصمت حق الآخرين في إبداء الرأي في حريتها بأنه إرهاب فكري! ولا يتسع المقام هنا لرصد حالات التناقض الفج في فتح الباب على مصراعيه لسب وإهانة وتحقير الرئيس المنتخب الذي لا ينتمي للفصيل الليبرالي، وغلق باب الانتقاد – ولو كان موضوعيا- ضد ممارسات رجال إعلام هذه النخبة، بل و" جرجرة" المنتقدين إلى المحاكم متى فاهوا ببنت شفة في حق أحد من أبناء النخبة الموقرة. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]