تطور مهم في إدراك الرئيس عبد الفتاح السيسي لأبعاد الخطر على أمن مصر القومي ، والربط الحتمي بين احترام حقوق الإنسان والنجاح في مواجهة خطر الإرهاب ، وهو ما بدا بصورة عابرة ، ولكن مهمة ، في حواره مع صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية ، عندما أكد على ما أسماه (عالمية حقوق الإنسان) مشيرًا إلى أن احترامها ضروري حيث يسمح بمكافحة الإرهاب على نحو أفضل . هذه لغة جديدة ، ربما تكون من تأثير الكتابة المتوالية عن خطأ الفصل بين الأمرين ، وعن خطأ الحديث عن "خصوصية" حقوق الإنسان ، وأن ما يصلح للإنسان في الغرب لا يصلح للإنسان في الشرق ، وهو كلام مهين ، انتقدناه وانتقده كثيرون غيرنا ، وها هو السيسي يعود عنه ، والعود أحمد ، ويعترف بعالمية حقوق الإنسان ، وبأن تحسين أوضاع حقوق الإنسان ضروري لأنه يساهم في مكافحة الإرهاب بصورة أفضل ، وقد بح صوتنا من قبل لكي نوصل له هذه المعلومة البديهية ، والمهم أنها وصلت ، وبقي أن تترجم تلك القناعة إلى إجراءات وسياسات جديدة على أرض الواقع . لم أكن من هذا الفريق المتفائل بأن يفتح الرئيس الفرنسي ماكرون ملف حقوق الإنسان مع السيسي في هذه الزيارة ، فقد أبدى الرئيس الفرنسي الجديد أقصى صورة للانتهازية السياسية الغربية عندما علق على الوضع في سوريا قبل عدة أشهر بقوله : (بشار الأسد عدو للشعب السوري لكنه ليس عدوا لفرنسا) ، وهو نوع من بيع الضمير والإنسانية والأخلاق من أجل تصوره لمصلحة بلده ، متجاهلا جرائم بشار الأسد المروعة ضد شعبه وقتله قرابة نصف مليون وتهجيره ثمانية ملايين وتدميره مدنا بكاملها على رؤوس سكانها وقتله آلاف المعتقلين تحت التعذيب في سجونه ، وبالتالي فملف حقوق الإنسان في العالم الثالث لا يشغله على الإطلاق طالما أن صفقات السلاح تنشط مصانع بلاده والاتفاقيات المليارية تتيح فرص عمل أوسع لمواطنيه وشركاتهم . قضية حقوق الإنسان وتحسين المناخ السياسي وحماية حرية الرأي وحرية الإعلام وإجراء مصالحة وطنية حكيمة وشجاعة هو ملف مصري خالص ، ومصلحة وطنية مصرية خالصة ، بغض النظر عن رؤية الآخرين لها ، وكل الدعوات لتصعيد عنف أجهزة الدولة والتضييق على الحريات العامة وإطلاق يد الأجهزة وتكميم الأفواه هي تمثل دعما قويا وإن كان غير مباشر للإرهاب وخلاياه وأفكاره ، لا يتمنى الإرهابيون أفضل من ذلك المناخ من أجل أن ينشطوا في أجوائه الكئيبة والمحبطة ويجندوا المزيد من الشباب المحبط والمختنق والذي سدت أمامه كل وجوه النشاط السياسي المدني ، نحن بذلك نخدم الإرهاب بالفعل ، إضافة إلى أن تلك الأجواء الخانقة والمتوترة وعسكرة الحياة في الشارع والمؤسسات والفنادق والمدن سيجعل من مصر بيئة طاردة للسياحة بكل تأكيد وطاردة للاستثمار ، لأنه لا يوجد مستثمر عاقل سيضع أمواله في بلد تشرع فيه الأسلحة بهذا الشكل ويعيش على وقع العنف والإحساس بالخطر الدائم والداهم ، وهذا كله يعمق من أزمتنا الاقتصادية ، والتي تنعكس على حياة المواطن العادي فتنشر الفقر والإحباط أكثر ، وهو ما يعود على الإرهاب من جديد بالفائدة ، وهكذا في حلقة مفرغة . لقد ضرب الرئيس المثل من جديد بما حدث في سوريا والعراق وأضاف إليهم ليبيا ، وقال أن الإرهاب بعد أن دمر تلك البلدان سوف يفكر في التسلل إلى مصر ، وهذا يستدعي تعاونا دوليا من أجل منعه من الانتشار في ليبيا أولا ، وهذا صحيح ، غير أنه رهن ذلك تلميحا بدعم الجنرال خليفة حفتر ، حليفه في ليبيا والميليشيات التي يرأسها باسم "الجيش الوطني الليبي" ، والحقيقة أن حفتر هو أحد أهم أسباب انتشار الإرهاب في ليبيا وإضعاف القدرة على دحره وهزيمته ، كما أن بعض أهم قادته العسكريين مطلوب الآن لمحكمة جرائم الحرب الدولية لارتكابه جرائم ضد الإنسانية ، ولا يشرف مصر أن تضع يدها في يد مثل هذه النماذج الإجرامية ، هزيمة الإرهاب وداعش في ليبيا أفضل من يقوم به ثوار ليبيا ، وكان هناك درسان في ذلك شديدا الوضوح ، درس مدينة "درنة" حيث نجح ثوارها من أبناء الشعب الليبي في هزيمة تنظيم داعش هزيمة منكرة وطردوه خارج المدينة وطاردوه في الصحراء ولم يتوقفوا إلا بعد أن استغل "حفتر" الفرصة وحاول أن يشن هجوما على المدينة لانتزاعها من الثوار ، أي أن حفتر خدم داعش هنا ، والدرس الثاني في مدينة سرت ، حيث نجح ثوار ليبيا "قوات البنيان المرصوص" في هزيمة داعش التي أعلنت إمارة كاملة في المدينة وإذاعة وارتكبت مذابح روعت العالم ، وبعد معارك دامية وطاحنة استمرت قرابة ستة أشهر كان حفتر خلالها يتفرج على المشهد من بعيد باعتباره لا يعنيه ! نجح ثوار ليبيا في سحق داعش وطردها وملاحقتها إلى الصحراء ، ولم يوقفهم إلا محاولة حفتر استغلال الفرصة لتهديد العاصمة طرابلس ، فاضطرت القوات للتوقف وإرسال جزء كبير منها لحماية العاصمة . رهان السيسي على "حفتر" خطير ، وسيسبب خسارة فادحة لمصر في ليبيا المستقبل ، وسيرسخ عداوات "مجانية" لمصر عند ثوار ليبيا لا يوجد لها أي مبرر ، وسيتسبب في فراغات أمنية خطيرة على حدود ليبيا الشرقية تهدد أمننا ويستفيد منها خلايا الإرهاب النشطة في المنطقة ، وتصور أننا يمكن أن نشكل جبهة مصرية فرنسية داعمة لحفتر على حساب الجبهة الإيطالية مع حكومة الوفاق في طرابلس هو جري وراء الوهم ، فالأزمة الليبية متشعبة ومصالح دولية عديدة متقاطعة فيها ، ولن تسمح لمصر ولا الإمارات بأي مساحة تأثير مهمة أو حاسمة ، ومصلحة مصر الحقيقية أن لا تخسر أي قطاع من الشعب الليبي . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1