الحرية السياسية حلم رومانسي جميل. ابتكرت أثينا الاغريقية قبل 2500 سنة الديمقراطية لتحويل الحرية الى واقع. الديمقراطية هي الآلة التي تُصنّع الحرية في سلطات منفصلة، وفي مؤسسات سياسية (الاحزاب) واجتماعية (النقابات والهيئات المدنية). صندوق الاقتراع محرك الديمقراطية. هو العلبة العجيبة التي تهديها الديمقراطية الى الشعب ليختار فيها نوابه وممثليه. اذا كان هناك وعي بالحرية وفهم للديمقراطية، جاء الاختيار الشعبي صحيحا ودقيقا. اذا غاب الوعي والنضج باتت العلبة لعبة خطرة يلهو بها مجتمع لا يعرف كيف ومن ينتخب، ومن يوصل الى السلطة. كلما تنوعت ألوان الطيف السياسي كان الشعب اكثر قدرة على الفرز واختيار ممثليه. المشهد الانتخابي والحزبي في المغرب فريد من نوعه عربيا. فهو يحفل بقوى سياسية ودينية تتوزع على الطيف السياسي من اقصى يمينه الى اقصى يساره. كلما منحت الحرية للناخبين المغاربة وزعوا الكعكة الانتخابية بنسب مختلفة بين هذه القوى، بلا ان يطغى حزب واحد على سائر الاحزاب الاخرى. شعوب اوروبا الغربية المتمرسة بالسياسة والديمقراطية لا تمنح حزبا او زعيما تفويضا انتخابيا مطلقا. عندما منحت الحرية للجزائريين، بعد مرور ثلاثين سنة على استقلالٍ ألغى السياسة، نصبوا مقصلة فوق علبة الاقتراع، وسلموا رقابهم الى الحزب الديني (جبهة الانقاذ)، فوقعوا بين نار سلطة عسكرية وسيف جهادية تكفر المجتمع والسلطة والسياسة. ديك تشيني حامل اختام بوش و«بعبع» الامن المخيف للحرية والديمقراطية في اميركا، أرسل المحروسة ابنته «ليز» لتعلم العرب كيف يلهون بعلبة الاقتراع الخطرة! تنحنح النظام العربي وقبل بالنصيحة. كانت النتيجة نظاما طائفيا بالعراق يتقاتل مع معارضات طائفية. كانت النتيجة وصول «حماس» الى مقر البلدية الفلسطينية، لتحاول منها الغاء الرياضة والموسيقى في المدرسة، وقمع حرية المثقفين في الحوار والاجتماع في الجامعات والمراكز الثقافية في الضفة وغزة. احزاب السلطة، في احتكارها السياسة، حالت دون نشوء قوى سياسية ليبرالية او يسارية حقيقية مؤهلة للممارسة الديمقراطية. مع الصحوة الدينية، بات الحزب الديني، سواء كان مرخصا او ممنوعا، هو البديل لهذه القوى، لكي ينافس حزب السلطة، ولكي يخترق صندوق الاقتراع، معتمدا على نصائح البنت «ليز»، ومستغلا الايمان الديني العفوي عند الناخبين، وغفلتهم عن ادراك مدى خطر التصويت لحزب ديني لم يستكمل بناءه الديمقراطي، ولم تتضح، بعد، رؤيته التامة للحرية. شيء من هذا القبيل حدث ويحدث في مصر هذه الايام. عندما اتيح قدر من حرية الاقتراع، سقطت الاحزاب السياسية، ونجح الحزب الديني الاخواني. نعم، كان حزب النظام يدرك ذلك، لكنه لم يهيئ الفرصة التامة لهذه الاحزاب لكي تنمو وتترعرع. وهي بدورها لم تعمل لتعميق قواعدها الشعبية، مكتفية باطلاق لسانها الطويل ضد رموز السلطة في صحافة حرة، بلا تقدير للمسؤولية الوطنية، بل حاولت مرارا وتكرارا التحالف مع «الاخوان» اثباتا ل«تقواها» في المواسم الانتخابية! ما العمل الآن؟ هل حان الوقت للاعتراف والترخيص للحزب الديني؟ لست في موقع الست ليز بنت تشيني لأزجي النصيحة، انما ابدي رأيا شخصيا، فأقول ان الترخيص للحزب الديني لا يقدم ولا يؤخر. فهو في الواقع موجود. لعل الترخيص الرسمي له مفيد في الزامه بالعلنية والشفافية: تقديم مشروعه السياسي لنرى كيف يوفق بين الاسلام والديمقراطية التي يقول انه بات يقبل بتداول السلطة عبر صنوق اقتراعها، صندوق الشعب، لا صندوق «الحاكمية» الغيبية. الترخيص الرسمي يفرض عليه تهوية تنظيمه الحزبي، بفتح مؤتمراته امام المراقبين والجمهور، ليعرفوا كيف يجري تنظيم خلاياه وقواعده، وكيف يجري انتخاب قياداته التي ما زال يمسك بها مرشد تخطى الثمانين، ومن بقايا «الجهاز السري» الذي ارتكب اغتيالات مروعة في الاربعينات. الاشكالية الاخوانية، في مصر خصوصا والعالم العربي عموما، تكمن في ان الحزب الديني خال من المثقفين والمفكرين. هو حزب دعاة للدروشة الاجتماعية و«المسكنة السياسية». حزب بلا ثقافة وبلا حوار هو الذي يطرح شعارات مصبوبة في قوالب جاهزة، وهو الذي يضع الاسلام في أسر اشكالية خطيرة مع الحرية والديمقراطية. هو يعلن انه اصبح مؤمنا بالتعددية السياسية، ثم يربطها فورا بأحجية غامضة، احجية فهمه المستتر الرافض للقبول بأحزاب يسارية بحجة انها «ملحدة» او «كافرة». «الاخوان» المصريون يقبلون فقط بالاحزاب «الحلال»، الاحزاب الليبرالية واليمينية التي تشاركهم في بورجوازيتهم الطائلة الثراء التي تقدم خدمات اجتماعية، من دون ان يكون لديها مشروع متكامل لمعالجة القضايا الاجتماعية، من فقر مزمن، الى تكاثر سكاني هائل يدمر مشاريع التنمية، عندما يفتح مليون طفل مصري عيونهم على الحياة كل تسعة أشهر، وعندما يتقدم نحو مليون شاب للعمل، فلا يجدونه كل سنة. الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم مطالب هو ايضا، في ضوء الامتحان الانتخابي الراهن، بأن يتحول من حزب للنظام الى حزب شعبي، اذا كان صعبا على حزب ليبرالي ان يكون حزب آيديولوجيا سياسية او طبقية، فلا بد من ان يكون حزب آيديولوجيا اقتصادية واجتماعية، حزبا له مشروع اجتماعي لتوفير ضمانات ومكاسب للفقراء والعمال، مع بدايات الازدهار الاقتصادي الذي تشهده مصر، لكي لا تتسع الهوة بين الفقر والغنى، ولكي لا يصوت هؤلاء للحزب الديني، كتعبير عن الاحتجاج، وليس كتعبير عن غرامهم بالاخوان. لست قلقا او مهتما بالتوتر في الانتخابات المصرية. العنف الديني او السياسي ظرف عابر في مجتمع له تاريخ عريق في التسامح والتعايش، انما اشعر بالقلق ازاء التلويح بتوريط الجيش في اللعبة السياسية. كان القضاة المصريون على خطأ كبير في فهم الديمقراطية، عندما دعا بعضهم الى انزال الجيش لحماية مراكز الاقتراع. مؤسسة مدنية ممتازة الوعي، كالقضاة، لا تقبل بعسكرة الحياة السياسية، لأي سبب كان. المؤسسة العسكرية العربية، عموما، هي ضد الحزب الديني. احرقت العسكريتاريا العربية اصابعها ومصداقيتها في لعبة السياسة. وهي اليوم تلقي بثقلها وراء المؤسسة السياسية الحاكمة، ادراكا منها لمتاعب التدخل لحمل المسؤولية مباشرة، ولا سيما ان العالم بات رافضا بشدة للانقلاب العسكري او الثوري. مع ذلك، فإغراء العسكر بالتدخل قد يثير لعاب بعض العسكريين المغامرين او المتدينين، كما حدث في السودان، وأدى الى حروب اهلية وضرب للديمقراطية المدنية. حماية اللعبة السياسية هي في مزيد من الحرية. الخوف من الحزب الديني لا يستدعي قمعه بالقوة العسكرية، انما بالذهاب الى المجتمع لتوعيته بخطر تجيير عاطفته الدينية الى احزاب ومرجعيات تملك احاجي غامضة، بدلا من مشاريع سياسية عملية. اقول هذا خوفا على مصر، وغيرة عليها، وحرصا على استكمال ديمقراطيتها التنافسية، فما يصيب مصر من خير او شر، يصيب العرب جميعا خيرا او شرا. ----------------------- صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية