في كتابه الحريات القديمة والحديثة 1819، أوضح بنجامين كونستانت الفرق بين الحرية بمعناها القديم، السائد في المدن اليونانية ثم في المدن الإيطالية الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية والحرية بمعناها الحديث في الاعتراف للفرد بمجال خاص يتمتع فيه بالاستقلال ولا يخضع فيه لغير القانون، كذلك فهناك الديمقراطية القديمة الشعبية والديمقراطية الحديثة التمثيلية. ويحكي جورج طرابيشي حكاية الديمقراطية عبر التاريخ، ميلادها الأول وميلادها الثاني فيقول: السياسة بنت الديمقراطية، الولادة الأولي للسياسة كانت حيت اخترع الأغريق الديمقراطية كنظام للحكم في أثينا في القرن الخامس ق. م.. إذن ليس من قبيل المصادفة أن تبدأ الفلسفة السياسية بأفلاطون اليوناني وأرسطو أيضا.. أفلاطون يكتب محاورته الشهيرة الجمهورية أرسطو يكتب السياسة إذن السياسة علم يوناني الأصل. وتعالوا إلي التفاصيل.. أولا لماذا نقول: إن السياسة علم نشأ في اليونان لأنه - حسب طرابيشي - توفرت له لأول مرة في التاريخ شروط ميلاده: 1- اختراع الكتابة. 2- اختراع المدنية. صحيح أن الكتابة واختراعها سابق علي اليونان فقد سبقهم الفينيقيون إلي اختراع الكتابة الأبجدية، لكن اليونان أحدثوا تغييرا في وظيفتها من كونها أداة للتجارة إلي أداة للسياسة، ولأن المدينة اختراع يوناني الأصل والمدنية شرط ميلاد السياسة لذا فليس مصادفة أن يكون اسم المدينة Polis والسياسة Politique مشتقة منها فاختراع المدينة أدي إلي اختراع رابطة جديدة بين الناس، فبدلا من رابطة النسب في القبيلة أو العشرة أو رابطة الولاء أو الاستتباع، اخترعت رابطة المواطنة أي الانتماء من قبل المواطن إلي مدينته وعلي عكس المدن المحترمة الأخري في الحضارات الأخري لم يكن المركز هو القصر أو القلعة أو المعبد وإنما كانت الساحة العامة الآغورا يتجمع فيها المواطنون خمسين مرة في السنة يدلون بأصواتهم علي أساس مساواة عديدة مطلقة لانتخاب القادة والقضاة والاقتراع علي القوانين التي ستدار بها المدينة. إذن سيفكر الناس وسيقررون ويدلون برأيهم لغة وعقل معا فنشأت كلمة لوغوس أي اقتران اللغة والعقل معا ونظام اللوغوس هو المؤدي الحقيقي للديمقراطية في عالم كان الحاكم يومها يحكم بقوة النسب أو الوراثة أو التفويض الإلهي.. الديمقراطية.. إذن خطاب عقل إلي عقل لانتزاع اقتناع إيجابي أو سلبي.. نظام الرق كان شرطا تكوينيا - حسب طرابيشي - لطبيعة الديمقراطية وقتها فهم يجتمعون خمسين مرة في السنة وهو يقتضي تفرغا شبه كامل، فكان لابد من وجود من يعمل في المصنع والمزرعة والجيش والورشة ومن يذهب إلي الساحة، لكن حدثت ولادة ثانية للديمقراطية في ظل الحداثة الأوروبية، ديمقراطية تمثيلية أي هناك ممثلون للشعب وتطهرت الديمقراطية من خطيئتها الأولي فلقد كانت حكرا علي الأحرار من الرجال، بينما منعت الأرقاء والنساء من المشاركة. يؤكد طرابيشي أن الولادة الثانية للديمقراطية أضافت ثلاث فضائل مهمة: 1- جعلت السياسة حرفة اخترعت السياسي. 2- إضافة مقولة الأفراد إلي مقولة المواطنين.. لفرض حقوق وعلي المواطن واجبات. 3- غيرت وظيفة السياسة ولم يعد لها وظيفة غير حماية حقوق الفرد وفي مقدمتها: أ- الحق في الحياة. ب- الحق في الوجود هذا حسب هوبز. ج- الحق في الأمن وعدم العدوان حسب لوك. د- الحق في الحرية وفقا لرسو. و- الحق في المساواة وفقا ليورلاماكي. كذلك فإن الولادة الثانية للديمقراطية قدمت فلسفة الحقوق علي فلسفة الواجبات.. الفرد قبل المواطن.. وأدي ذلك إلي فضيلتين مهمتين: 1- اختراع فكرة العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. 2- اختراع المجتمع المدني يمثل سلطة مقابلة لسلطة المجتمع السياسي. ويضمن عدم مجاوزة السلطة الحاكمة حدودها فالتحول البشري من الوجود الطبيعي إلي الانتظام في الوجود الاجتماعي والسياسي المتمثل في دولة، والدولة سلطة وأي سلطة تسعي إلي مراكمة السلطة وتجميعها وزيادتها لذا كان لابد من اختراع المجتمع المدني القادر علي تمثيل سلطة في مقابل سلطة جامعة قد تتغول علي الفرد. قدم طرابيشي تعريفا للمجتمع المدني مبهر المجتمع المدني هو مجال ممارسة السياسة عن طريق غير طريق السياسة، الدولة الشمولية بالغائها للمجتمع المدني ألغت المجتمع السياسي نفسه، الماركسية وعدت بإلغاء الدولة فأفنت السياسة نفسها ووعدت بفناء الدولة فشيدت دولة جديدة الوطأة تغولت علي الفرد.. نرجو الإدراك.