فى حياتنا كثير من الأقوال المأثورة التى نعجب بها ونرددها لكننا لا نتوقف لنتأمل ماذا تعنى أو لنرى أين نحن مما نردد، وهل نمارسه فى حياتنا اليومية، أم أننا اكتفينا بالقول عن الفعل؟ فقد ركزت كثير من تعليقات القراء على مقالى السابق على مسألة الأخلاق وأهميتها فى حياتنا، وهذا مؤشر جيد على التجاوب مع ما حمله المقال من رسائل، خصوصاً فى هذه اللحظة الدقيقة التى نعيشها.. تذكرت وأنا أقرأ التعليقات بيت الشعر الخالد الذى سطره أمير الشعراء أحمد شوقى: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا" ولكن واقع الحال فى مجتمعنا ردنى إلى نص مسرحى للكاتب الروسى الأشهر مكسيم جوركى بعنوان "الحضيض". فى ذلك النص غاص جوركى فى قاع المجتمع فى روسيا القيصرية ليفضح مرارة القهر الذى كان يعانيه الفقراء فى نظام لا يرى سوى الأغنياء، ويكشف تأثير هذا القهر على معنويات الناس وقيمهم وأخلاقهم. لقد أراد شوقى أن يبين أهمية الأخلاق ليس فقط فى بناء الأمم وإنما أيضًا فى بقائها، بينما انشغل جوركى الذى عاش بين البسطاء وذاق معهم مرارة الألم، بأن يواجه بالبسطاء ومعهم الواقع المرير وعناد الحلم المستحيل، فكانت كتاباته فى رأى كثير من النقاد وثيقة تاريخية مهمة تدين وتُعرى مجتمعا وواقعا يعكس أوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية قاسية. تساءل جوركى فى مسرحيته عن معنى الأخلاق بالنسبة لمن يعيشون فى فقر مدقع. ولم يكن فى هذا التساؤل أى تبرير للتحلل من الأخلاق، وإنما كان يرمى إلى أن الأخلاق فى مجتمعه تعانى أزمة وتحتاج إلى ثورة اجتماعية تؤسس لنظام جديدٍ تسود فيه الأخلاق المنشودة. لقد كانت الثورة حلم جوركى المستحيل، وستظل أبداً حلم البسطاء الذين يتطلعون إلى العدل، فلا يمكن للأخلاق أن تتأسس فى مجتمع قائم على التمييز والظلم. من هنا كانت دعوتى فى ختام مقالى السابق إلى ميثاق أخلاقى لأمتنا، نحن فى أمس الحاجة إليه. هذا الإدراك كان الدافع وراء مقالاتى الثلاث الأولى التى تعرضت فيها لقضية الكذب وخطورته على أمتنا. وأشرت فى المقال السابق إلى أن المهمة الآن هى أن نضع ميثاقاً أخلاقياً مستمداً من روح الإيمان ويواجه التطبيقات العملية واليومية والحياتية لأمور دنيانا. وقلت إن هذا الميثاق ليس هو الدستور، الذى يحكم وينظم العلاقة بين الفرد والدولة والذى يأخذ غالباً صيغة تعاقدية تقيم توازنا بين حقوق أطراف العقد والتزاماتهم وواجباتهم. وهو يختلف أيضا عن المبادئ فوق الدستورية التى تحدد القيم العليا التى لا يجوز لأى صيغة تعاقدية أن تخالفها.. إنه يفترض التزاماً طوعياً من جانب الأفراد ولا يتحقق بدون هذا الالتزام، ويرى أن هذا الالتزام هو الأساس المتين الذى تقوم عليه المجتمعات والأمم وتبقى.. وهذا ما يجعلنى، ويجعل كثيرًا من القراء فى صف أمير الشعراء، الذى سطر أحرفاً من نور تواكبت مع نهضة أمتنا وثورتها الوطنية الأولى. حددت فى المقال الأسس التى أرى أن هذا الميثاق الأخلاقى يقوم عليها ، وهى: الصدق ونبذ الكذب والمراوغة؛ وعدالة قائمة على مبدأ المساواة أمام القانون ونبذ التمييز؛ ورفض الظلم والتمييز بين أبناء الوطن الواحد؛ وإطلاق الحرية بعدالة وكرامة للجميع؛ والوقوف بحزم مع كل أدوات الرشوة ونهب المال العام؛ والتصدى لكل عدوان على الإنسان ويصون للإنسان حريته وكرامته. ولا تبتعد هذه الأسس كثيراً عن المبادئ التى نادت بها الثورة المصرية الثانية، وتسعى إلى تحقيق التطلعات والأشواق التى عبرت عنها جموع الشعب التى التفت حول طلائع الشبان الذين خرجوا فى 25 يناير معبرين عن رفضهم أن تهان كرامة الإنسان وأن تمتهن، وليحولوا وقفاتهم الاحتجاجية إلى ثورة عارمة أرادت أن تفتح بابا للمستقبل، هناك من يحاول أن يوصده، طمعاً فى فرصة يظنها سانحة، أو رفضاً لتغيير يهز عروشاً استقرت. لقد أظهر المصريون خلال احتجاجهم المدنى السلمى وجهاً مشرقاً، نقياً نقاء زهرة اللوتس، حرك أشواقاً وآمالاً ليس فى مصر وحدها ولا فى المشرق فقط، وإنما فى العالم كله، ولكن سرعان ما توارى هذا الوجه شيئاً فشيئاً حتى كاد أن يتلاشى، حجبته أشباح أطلت من الماضى. واحتل الشيوخ المقاعد وأوصدوا الأبواب فى وجوه شبان يدافعون عن مستقبلهم، وكشفوا مثل جوركى، مدى التدنى الأخلاقى الذى يمكن أن نصل إليه فى صراعنا من أجل اللحظة، وعلى حساب المستقبل. إن حالة الصراع بين الأجيال الحادثة على أرض مصر جسدت نفسها فى صورة من الانقسام الخطير بين القوى السياسية المؤثرة فى الساحة والتى لا تنذر إلا بإطالة أمد الصراع. ومن هنا تأتى الدعوة إلى الميثاق الأخلاقى تجاوباً مع حاجة الأمة ، من أجل إنقاذ المستقبل وتحريره من أغلال الماضى، ولتجنيب البلاد ثمناً أفدح لعقلية تحكمت لعقود عديدة ترفض التضحية من أجل الأجيال القادمة، فغاب عنها سؤال المستقبل ليضيع منها الحاضر فراحت تفتش فى ماضٍ حولته إلى صورة مقدسة ترفض أن تدقق، أو أن يدقق أحد فى تفاصيلها، كى تحافظ على نقائها المتخيل. لقد كانت الأخلاق وتأسيسها حجر الزاوية فى انتقال البشرية من الهمجية إلى الحضارة، وارتبطت فى مراحل الانتقال الأولى ارتباطاً وثيقاً بالدين، تجسدت فى الوصايا العشر، التى لم تخرج عنها أى دعوة دينية. والأخلاق هى التى أعطت للدين وظيفة ودورا فى حياة البشر، كوازع يردعهم عن البغى والعدوان، وأعطت لرسالته مضموناً. وعندما يدير رجال الدين ظهورهم للأخلاق، وعندما تتعارض أفعالهم مع دعواهم، وعندما يجعلون من الدين المتحالف مع السلطان عائقاً أمام التقدم، تهجر الأخلاق الدين وتبحث لنفسها عن مجال جديد يجسد تحالفها مع التقدم. وهذا هو ما حدث فى أوروبا فى انتقالها من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. ولم تقف شعوبنا التى كانت تسير فى اتجاه مضاد كثيراً أمام هذا التحول تتأمله وتستخلص منه العبر والدلالات، مثلما فعلت الشعوب الأوروبية مع حضارتنا السالفة، وأخذت منا ما لفظته شعوبنا من أفكار ومفكرين، كى تضفرهما فى أسس نهضتها الحديثة، واكتفينا نحن برفض حضارتهم رغم أننا نكرر دون ملل أنها قامت على أنقاض حضارتنا. وعود على بدء، لم نقف كثيراً أمام ما قاله المحدثون من علمائنا.. لم نتأمل مثلاً قول الإمام محمد عبده: "وجدت فى أوروبا مسلمين بلا إسلامٍ ووجدت فى بلدى إسلاماً بلا مسلمين." لو تأملنا قوله لعرفنا أن الارتباط بين الأخلاق والحضارة والتقدم أقوى وأمتن.. ويبقى السؤال أيهما يؤسس للآخر؟ وللحديث بقية إن شاء الله الأنبا مكسيموس رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]