أعادنى ما يحدث فى مصر الآن، وهو كثير وعلى أكثر، إلى قصة الثور الأبيض والثور الأسود، وهى من القصص الشهيرة فى كتاب الحكم الخالد أبداً.. "كليلة ودمنة".. والقصة معروفة بلا شك لكثير من القراء. والحيوانات فيها تنطق كما لو كانت تتحدث بلسان حالنا اليوم. والحكمة المستخلصة منها أن الثور الأسود أكل عندما صمت على أكل من سبقه من ثيران المزرعة. ولا يزال حديثنا ممتداً حول المصداقية والكذب السياسى، والذى أراه من أهم ركائز الإفساد السياسى والاجتماعى على حد سواء.. وألح على هذه القضية حتى لا نكون، وشعبنا، أول من يؤُكل كما أُكل الثور الأبيض. استشهدت فى حديث الأسبوع الماضى، بالحديث الشريف "من غشنا فليس منا"، معتبراً أن غش العقول أكثر خطورة من غش اللبن مثلاً، ثم قارنت بين الحديث الشريف ومبدأ العزل السياسى لكل من يكذب، أى يغش الرأى، المعمول به فى كثير من دول العالم التى قطعت شوطاً فى بناء نظم سياسية مستقرة. لم تزعجنى طريقة تفكير البعض فى حصر الفكرة وتطبيقها على الصراع بين القوى السياسية الفاعلة على الساحة فى الوقت الراهن، وهو ما لم أقصده.. أحد الأصدقاء المحترمين يتساءل عما إذا كنت أرمى بحديثى إلى مجلس الشعب أم أقصد الحكومة؟ طبعاً ليس من المعقول أن أقصد مجلساً يضم كل الأطياف ويتخذ قراراته بحوارات علنية والتصويت العلنى.. وكذلك الأمر بالنسبة للحكومة، ولكنى بالتأكيد أقصد كل من يكذبون من النواب والوزراء وأى من المسئولين، وكل من وقف أمام الكاميرات بلا خجل يكذب ويتهرب من الأسئلة الحاسمة ويغير أقواله ويلتوى، حتى لم نعد نعرف على وجه اليقين ما هى حقيقة آرائه أو ما هى وجهات نظره . فقد عانيت شخصيا من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان باسم الله والدين والإيمان وعانيت من شهادة الزور من أصدقاء العمر الذين شاهدوا الظلم بعيونهم ولمسوه بأيديهم، ولم يجرؤ واحد منهم أن يقول للظالم لا تظلم، أو للمفترى لا تكذب . نخدع أنفسنا إذا أنكرنا أن أمراضنا الاجتماعية تستغرق مجتمعنا كله، أو نوصم بها فريقًا دون الآخر بداية بأنفسنا. ومن هنا كان تركيزى على أن أبدأ هذه السلسلة من الأحاديث التى أرمى من خلالها الحديث عن المستقبل، بأن أتدارك وأن تتدارك الأمة كلها أمراض الماضى والحاضر، وأهمها كما عرضت فى المقالين السابقين الكذب السياسى المكشوف بلا خجل وبلا محاسبة. ونخدع أنفسنا أيضاً إذا أنكرنا أن المجاملة فى قول الحق كانت سبباً رئيسياً فيما حدث لنا طوال السنين الخوالى وما وقع من ظلم بدون رحمة على مناضلى الرأى والكلمة . وأزعجتنى حقاً محاولة بعض الأصدقاء الدفاع عمن يكذب ويسوق له المبررات.. أزعجتنى فكرة التساهل مع من يخرق المبادئ والأخلاق العامة مهما يكن المبرر.. فهذا تساهل وتفريط فى حق الوطن. ويحضرنى قول الزعيم الوطنى مصطفى كامل: "من يتهاون فى حق من حقوق دينه وأمته ولو مرة واحدة يعش أبد الدهر مزلزل العقيدة سقيم الوجدان". ومن هنا، فالموقف الأكثر تعاسة هو أن نصمت أو نغض الطرف أو أن نلتمس الأعذار لمن يكذب علينا باسم الله أو باسم الدين: هذه فى الحقيقة جريمة بشعة، لأنها تتجاوز الإساءة إلى المجتمع لتسىء إلى الدين نفسه، فماذا يتبقى لنا إذاً؟ لقد قمنا بثورة عظيمة، شهد لها العالم، وأجرينا انتخابات برلمانية أقل ما توصف به أنها عبرت عن واقع الرأى العام لشعبنا فى اللحظة الراهنة. ولم يعد هنالك مجال لأن نعلى مصالحنا الحزبية أو الفئوية على مصلحة الأمة والوطن وصار من واجبنا أن نحاسب من اخترناهم بنزاهة وعدالة. وأرى أننا فى مرحلة تأسيس لوضع جديد، نتطلع ويتطلع معنا الشعب أن يكون وضعاً مستقراً يفتح لمصر المصريين أبواب التقدم.. ولن يتحقق هذا إلا إذا أمعنا النظر فيما مرَّ بهذه البلاد من صعاب ووقفنا على أسبابها سعياً لعلاجها كى نبدأ بدايةً صحيحة. فإذا كنا نريد إعادة زراعة حقل كان قد تضرر قبلاً من الشوك، فلا بد أن نحرثه حرثاً جيدًا أولا حتى نقتلع كل الأشواك من جذورها ونعيد تسميده تسميداً جيداً ثم نزرع فيه بذوراً صالحة، فنحصد منه ثماراً جيدة. فإذا كنا نريد أن نضع الأساس الصحيح و ننشأ البنية التحتية السليمة لبناء الدولة الحديثة ومؤسساتها فلا بد أن تكون على قاعدة راسخة من الإيمان والمبادئ والأخلاق.. وبهذه المبادئ ننقى حقلنا أولاً من الأشواك.. وإلا فهذا معناه ببساطة أننا نبنى المدينة على بركة من المياه الآسنة ولا نؤسس للمستقبل على قواعد سليمة. أما الإيمان، فنحن متفقون فى الرؤية الأوسع رغم تنوعنا ومتفقون فى إطار التحديد بموجب واقع الإجماع الشعبى على أن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، وبهذا يكون موضوع الإيمان غير قابل للمزايدة السياسية التى نرى لها صورًا كثيرة اليوم، وهى مزايدة تخضع الدين والإيمان لرؤية شائعة للسياسة، تراها شيئاً مدنساً ولا أخلاقياً.. وهى رؤية تحتاج إلى تصحيح.. فالسياسة وإن كان لها قواعدها إلا أن هذه القواعد لا يجب أن تكون مبرراً لعدم تقيُّد الممارسة السياسية بالأخلاق. فالإيمان والقيم والمبادئ الأخلاقية يجب أن تكون موجهاً للسياسة.. ويبقى أمامنا الآن أن نضع ميثاقاً أخلاقياً مستمداً من روح الإيمان لكنه يواجه التطبيقات العملية واليومية والحياتية لأمور دنيانا.. هذا الميثاق ليس هو الدستور، لكنه بالنسبة للأمة مثل ميثاق الشرف لأى مهنة، إنه ميثاق للأخلاق العامة والشرف السياسى ولقواعد ممارسة الحياة السياسية يقوم على الصدق وينبذ الكذب والمراوغة، ويؤسس للعدالة قائمة على مبدأ المساواة أمام القانون ونبذ التمييز، ويرفض الظلم والتمييز بين أبناء الوطن الواحد، ويطلق الحرية بعدالة وكرامة للجميع، ويقف بحزم مع كل أدوات الرشوة ونهب المال العام ويتصدى لكل عدوان على الإنسان ويصون الإنسان حريته وكرامته. وللحديث بقية إن شاء الله الأنبا مكسيموس رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]