حتي تصل الأنقلابات العسكرية لسدة الحكم و يُكتب لها النجاح ، تحتاج في رأيي أن تتوافر فيها عدة عوامل،أول هذه العوامل هي أن يكون قائدها شخصية عسكرية قوية تحظي بالأحترام و القبول داخل المؤسسة العسكرية ، قد يساعده علي ذلك تاريخه العسكري ، و كذلك تحظي بالقبول عند قطاع عريض من الشعب لكي يستجيب و يخضع له حين يتولي الحكم في البلاد بعد أن يطيح برأس السلطة التي ربما تكون سلطة منتخبة .و لأن وقوع الأنقلاب يقتضي أيضاً وجود أطماع سياسية لدي قائده حتي يقدم علي تلك الخطوة الخطرة،لذا فقد حرص القادة المدنيون دوماً (من رؤساء وزارة أو رؤساء) إلي اسناد قيادة الجيوش و رئاسة أركانها لشخصيات لا يُعرف عنها أي ميول أو اهتمامات سياسية للحد الذي يحجم معه صاحبها عن الأنقلاب علي السلطة حتي إذا أتيحت له الفرصة لذلك، و لا مانع أن يكون هناك في المقابل شيء من اقتسام السلطة بشكل أو أخر يضمن ولاء القيادات العسكرية. أما ثاني عوامل نجاح الأنقلاب العسكري فيكمن في مدي تدهور أوضاع البلاد الداخلية سواء السياسية أو الأقتصادية أو الأجتماعية ، و مدي قدرة الأنقلاب علي استغلال حالات الأحتقان و الغضب في الشارع لأستقطاب الشارع في صفه ضد السلطة المدنية حتي لو كانت سلطة شرعية منتخبة.فالأنقلابات كثيراً ما تلعب علي أخطاء السلطة السياسية المدنية ،فتستغل انشغالها بالصراعات السياسية عن هموم الشعوب و متطلباتها ، فتطيح بها بكل سهوله و ربما بدعم شعبي كبير رغبة من الشعب في الإطاحة بأولئك الذين لا يعيرون همومه و مشاكله أي اهتمام و يكتفون بالصراع فيما بينهم. يكاد لا يخلو أي أنقلاب عسكري من أحد هذين العاملين ، و ربما أجتمعا أحياناً ، و لكن يجدر هنا الإشارة أننا نتحدث عن تلك الدول التي تكتنف العلاقات المدنية-العسكرية فيها شيء من الغموض ، فلا المؤسسة العسكرية تحمي الشرعية و مباديء الجمهورية بشكل صريح كما هو الحال في تركيا ، و لا هي تخضع بشكل تام و واضح للسلطة المدنية. و أري لزاماً للتوضيح أن نتناول النموذج الباكستاني ، فظاهر باكستان أنها دولة مدنية ديمقراطية ربما تلعب فيها المؤسسة العسكرية دوراً سياسياً بارزاً بحكم نشأة الدولة القائمة علي الصراع العسكري ، لكن هذا لم يمنع من أن يحكمها مدنيين سواء في منصب الرئيس أو رئيس الوزراء.و مع ذلك فقد شهدت البلاد ثلاث انقلابات عسكرية رئيسية في الفترة من 1947 و حتي 1999. لم يفصل بين الأنقلابين الأخيرين سوي عشرون عاماً ،و أدي كل منهما إلي حكم عسكري صريح وضع علي قمة هرم السلطة في الحالتين رئيس أركان الجيش الباكستاني آنذاك. ففي عام 1977 أنقلب الجنرال ضياء الحق علي رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو و ذلك علي خلفية أزمة سياسية حادة أتهمت فيها أحزاب المعارضة بوتو (نحو 9 أحزاب تحالفت في الأنتخابات في مواجهة حزب الشعب الذي رأسه بوتو) أتهمته بتزوير أنتخابات مجالس المحافظات بعد أن خسرت في ثلاث أرباع المحافظات . فما كان من هذه الأحزاب إلا أن قاطعت الأنتخابات و خرجت في مظاهرات عارمة في جميع أنحاء البلاد ، صاحبها أعمال عنف و اضطرابات شديدة استمرت لنحو ستة أسابيع.حاول بوتو أن يستعين بالجيش لقمع هذه التظاهرات و لكن رفض الجيش أن يصطدم بالشعب و قام رئيس الأركان بالأنقلاب ضده حفاظاً علي أستقرار البلاد ، و تم محاكمة بوتو بتهمة قتل أحد المعارضين و أُعدم علي خلفية ذلك.و للمفارقة فإن بوتو هو من عيٌن ضياء الحق في منصب رئيس الأركان متجاوزاً خمسة من القادة أقدم منه في الرتبة ، و ذلك لظنه أنه ليس له أي ميول سياسية.و كان ضياء الحق قد وعد بعودة الحكم المدني لباكستان و اجراء أنتخابات في غضون 3 أشهر و لكن أمتد حكمه ليصبح أحد عشر عاماً من الحكم الشمولي ،أنتهت في 1988 إثر مقتله في حادث طائرة. الأنقلاب الثاني علي السلطة المدنية وقع في عام 1999 إبان رئاسة نواز شريف للحكومة ، و قام به أيضاً رئيس أركان الجيش وقتها الجنرال برويز مشرف .كان من الأسباب المعلنة لهذا الأنقلاب هي تردي الأوضاع في البلاد لاسيما الوضع الأقتصادي و استشراء الفساد و تبديد الأموال العامة، تلك التهم التي عوقب نواز شريف علي إثرها بالنفي إلي السعودية و نصٌب مشرف نفسه رئيساً لباكستان. يجدر الإشارة هنا إلي تواصل المظاهرات المناهضة لسياسة حكومة نواز شريف –قبل انقلاب مشرف - و التي كانت تنظمها أحزاب المعارضة (نحو 19 حزباً ) و التي لم يكن لها غاية إلا ( إسقاط الحكومة ). لاشك أن هذه الأنقلابات أحاطت بها ظروف أخري ،داخلية (علي الساحة السياسية ) و خارجية (في إطار العلاقات الدولية لاسيما الأمريكية منها ) ، أدت إلي نجاحها بل و أستمرار قاداتها في السلطة علي الرغم من أنتهاجهم لنظام حكم شمولي. لكن ما يعنيني في المقام الأول هنا هو الأستغلال للظروف الأقتصادية و الصراع السياسي الذي كان العامل المشترك في الأنقلابين السابقين ، و يعنيني أيضاً ذلك الخطاب الذي تم تصديره للشعب حتي يذعن للقيادة العسكرية و الذي دأب قادة الأنقلابات علي تبنيه، ذلك الخطاب الذي يبرز كم كان الأنقلاب هو الملاذ الوحيد الذي وجدوه أمامهم ،و أنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إليه" لانقاذ البلاد و الحفاظ علي وحدة صف العباد بعد أن أستشري الفساد و انهار الأقتصاد" ، و ما خطاب الرئيس السادات ،بعد حركة الضباط في عام 52، منٌا ببعيد!! و الغريب أن الأنقلابات تأتي دائماً بما لا تشتهي الشعوب ، بل و تنقلب علي الأهداف التي جاءت تنادي بها ، فنجد الأوضاع تزداد سوءاً علي صعيد الأقتصاد و السياسة بل و ربما الأجتماع. حملني علي هذا الحديث ما يروج له الإعلام منذ أيام ،و خاصة بعد بدء جلسات البرلمان ،من تعارض شرعية البرلمان ( الشرعية الدستورية ) مع شرعية الميدان ( الشرعية الثورية ) و أنه من غير الممكن أن يجتمعا. بل وصل الأمر لطرح البعض لسؤال مغرض ،أو علي أحسن الفروض "ساذج " ، يقول : هل الشرعية للبرلمان أم للميدان ؟!! و هذا السؤال لابد أن تكون إجابته القاطعة هي:" أن الشرعية للبرلمان" . فإن كنا نمهد الأن لدولة مدنية مؤسسية، يختار فيها الشعب من ينوبون عنه و من يمثلونه ،فعلي الجميع احترام هذا الأختيار مهما أختلفنا معه ،فيجب علينا أن نرسٌخ لهذا المفهوم و ألا نسمح بتجاوزه لأننا بذلك التجاوز نفتح الباب علي مصراعيه لإسقاط الشرعية بمنتهي البساطة مما يعني تهاوناً بشأن مفهوم الإرادة الشعبية. من ثم فعلي الميدان أن يكون سلاحاً في يد البرلمان لا سيفاً مسلطاً علي رقبته ،فليس من مصلحة أحد في هذا الوقت أن ينهار البرلمان أو أن يفقد الناس ثقتهم فيه. و في ذات الوقت، علي البرلمان أن يدرك حقيقة في غاية الأهمية هي أن سلاحه الفعٌال هو ذلك الشارع الثائر من خلفه ، هو أداته الوحيده لتنفيذ المطالب و جعلها واقع علي الأرض لاسيما مع عدم وجود سلطة تنفيذية حقيقية للثورة ،و بالتالي فعليه أن يركن إلي ذلك الدعم الشعبي و يعظم من شأنه ، و لا يركن لمؤامات و صفقات ليست مأمونة العواقب و لا مضمونة. إذن سيحتاج البرلمان للميدان آجلاً أو عاجلاً، حين تضيق به السبل فلا يجد عن الضغط بديلاً، و من ثم فلا داعي أن يحرق الميدان بمن فيه أو يشيطنه، فالميدان هو من جاء بالبرلمان. كذلك فإن ما رأيناه من خلافات مفتعلة حول توزيع اللجان و رئاستها و تبادل الأتهامات في جلسات البرلمان الأولي ،فإني أراه من قبيل المراهقة السياسية التي لا تخدم أي طرف من الأطراف .فعلي الجميع أن يدرك أن التحديات أكبر بكثير من أن نختلف عليها فيهرع بعضنا إلي وسائل الإعلام باثاً شكواه !!و علينا أيضاً أن ندرك أن خروج هذه الخلافات من أروقة البرلمان إلي استديوهات الإعلام يهز مصداقية نائب البرلمان ،بل و البرلمان برمته، أمام ناخب حديث عهد بالديمقراطية ربما لن يفهم ذلك بعيداً عن كونه صراع علي الكراسي. و لن يستفيد من هذه الصراعات المفتعلة – و التي أتمني أن تخفت مع الوقت و لا تزيد حدتها – غير من يطبق علي السلطة فعلياً يرقب كيف يدير ممثلو الشعب خلافاتهم و ربما تحيٌن لحظة التي يضيق فيها الشعب بهم. أخيراً يحضرني في هذا السياق تصريح أدلي به عمر سليمان قبل أيام من تنحي مبارك جاء فيها :إن لم ينجح الحوار كحل للخروج من الأزمة وقتها ، فإن البديل سيكون الأنقلاب العسكري!! فإن كان الأنقلاب العسكري غير متاحاً وقتها و غير مقبول لأعتبارات عدة لعل من ضمنها التقاليد العسكرية (كون مبارك عسكري سابق ) أو افتقادها لعوامل نجاح الأنقلابات، فعلينا أن ندرك أنه ربما يكون أحد الخيارات التي المتاحة لاحقاً ،بل و ربما المقبولة عند الشعب، لاسيما إذا لم تثبت مؤسسات الحكم المدني قدرتها علي الإدارة و نبذ الخلافات فيما بين أعضائها فوفرت تربة خصبة من الخلافات المصطنعة ينمو فيها هذا الخيار ،خاصة أن أنتقال السلطة للمدنيين سيكون سابقة تاريخية هي الأولي في مصر منذ 1952 ، إن لم ننتبه لذلك نكون عندها نطعن أنفسنا بأيدينا.