خلصنا فى مقال سابق إلى ان مكانة الزراعة المصرية فى الاقتصاد شهدت تراجعا كبيرا من خلال تتبع تطور عدد من المؤشرات ، من أهمها نصيبها فى الناتج المحلى الإجمالى الكلى الذى انخفض من 33% فى 1965 إلى 13% فى 2015 .وتراجع مؤشرات أخرى مهمة مثل نسبة القوة العاملة الزراعية إلى القوة العاملة الكلية ، ونسبة الصادرات الزراعية إلى الصادرات الكلية ونسبة الإنتاج المحلى من الغذاء إلى الاستهلاك القومى من الغذاء ونسبة السكان الزراعيين إلى السكان المصريين . وتراجع هذه المؤشرات ليس مشكلة فى حد ذاته ، ففى الاقتصاديات المتقدمة يتضاءل دور القطاع الزراعى إلى حد كبير ، ففى الولاياتالمتحدةالأمريكية على سبيل المثال تساهم الزراعة بنحو 3% فى الناتج المحلى الإجمالى ،ولكن ضخامة الموارد الأرضية والمائية والتقدم التكنولوجى فى الزراعة الأمريكية جعل الولاياتالمتحدة تشغل مكانة أكبر منتج زراعى فى العالم. فالمشكلة فى الزراعة المصرية إذن لا تعزى إلى تراجع مؤشراتها بقدر ما تعزى إلى نضوب الموارد المائية أو عدم كفايتها وكذا تقلص الرقعة الزراعية بسبب عدم كفاية الموارد المائية أو بسبب تزايد الضغط السكانى والتغول العمرانى على الأراضى الزراعية أو بسبب التغيرات المناخية مثل التصحر والتملح وارتفاع ماء البحر وغرق الدلتا أو كل هذه العوامل مجتمعة. الشرط الضرورى إذن لقيام زراعة قوية هو وفرة الموارد الفيزيقية من الأرض والمياه بالنسبة للسكان ، أما الشرط الكافى فيتعلق بسياسات وأطر مؤسسية قوية . والشرطان غير متوافران فى الزراعة المصرية فى الوقت الحالى . بمد الأفق الزمنى للخمسين عاما القادمة (الفترة 2015- 2065) تبدو الصورة المتوقعة للزراعة المصرية أشد وضوحا ، ولاسيما بالنسبة للشرط الضرورى فى ظل توقعات العلاقة بين السكان والمياه ، وهى العلاقة الأهم الحاكمة لمستقبل الزراعة المصرية فسوف يستمر عامل العلاقة السكانية المائية فى تقليص المواردالمائية المتاحة للزراعة .فبالنسبة للسكان بافتراض معدل نمو سكانى متواضع يبلغ 1.4% سنويا ، يتوقع أن يتضاعف عدد السكان من 90 مليون نسمة فى عام 2015 إلى 180 مليون نسمة فى 2065.وبافتراض أن نصيب الفرد من المياه للاستخدامات المنزلية والصناعة نحو 300 متر مكعب سنويا يكون إجمالى كمية المياه اللازمة لهذين الغرضين 54 مليار متر مكعب سنويا . وهى كمية تعادل تقريبا حصة مصر المائية السنوية الحالية بافتراض أن لا أثر على الإطلاق لسد النهضة ولا لغيره من السدود الإثيوبية ولا للتغيرات المناخية على هذه الحصة خلال الخمسين عاما القادمة .ومن ناحية أخرى فإن ثبات حصة مصر المائية الحالية كما هى طوال الخمسين عاما القادمة أمر مشكوك فيه تماما ، فهناك سد النهضة وسلسلة السدود التى شرعت إثيوبيا فى إقامتها على النيل الأزرق مع تزايد الاحتياجات التنموية لسكانها البالغ عددهم نحو 240 مليون نسمة فى عام 2065 ولديها مساحات شاسعة من الأراضى القابلة للزراعة ، وسوف تسعى فى الأغلب إلى احتجاز المزيد من مياه النيل لزراعتها أو لتحويل الزراعات المطرية إلى زراعات مروية .وهناك أيضا السودان ، وهى وإن تكن دولة منبع شأنها شأن مصر ، فإنها تسبقها على مجرى النهر ،وهى وإن كانت ترتبط مع مصر باتفاقية 1959 لتوزيع مياه النيل فإن وقوفها بجانب إثيوبيا فى قضية سد النهضة يوحى بأن الدولتين –إثيوبيا والسودان- يمكن أن تمارسا ضغطا على مصر لاقتطاع المزيد من مياه النيل على حساب مصر المائية ، خاصة أن عدد سكان السودان سيبلغ نحو 100 مليون نسمة فى عام 2065 ولهم احتياجاتهم التنموية كذلك ولديها أكثر من 200 مليون فدان قابلة للزراعة .وفى ضوء هذه الاعتبارات يقدر الخصم المتوقع من حصة مصر المائية بنحو 10 مليارات متر مكعب سنويا عند حده الأدنى و 20 مليار متر مكعب سنويا عند حده الأقصى . وذلك يعنى ان الكمية الواردة لمصر من مياه النيل ستتراوح بين 35 – 45 مليار متر مكعب سنويا . وهى كمية تقل حتى عن الوفاء يالاحتياجات المائية للاستخدامات المنزلية والصناعة . فى عام 2065 والمقدرة كما أوضحنا سلفا بنحو 54 مليار متر مكعب سنويا .ومن ناحية اخرى لما كان كل مليون فدان يلزمه 5 مليارات متر مكعب سنويا ، فذلك يعنى أن الإنخفاض المتوقع فى الرقعة الزراعية نتيجة للسدود والتنافس على مياه النهر يتراوح بين 2- 4 مليون فدان .وجدير بالذكر أن الأراضى الزراعية بمنطقة الدلتا ستتعرض للتبوير والتجريف والتملح والتصحرنتيجة لنقص المياه . التغيرات المناخية أيضا أصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهلها وستؤثر على مصر من أكثر من جانب ، فدورات الجفاف التى تضرب الهضبة الحبشية التى تتبادل مع دورات الفيضان كل 7-10 سنوات ، تكرس الشح المائى فى مصر خاصة فى وجود سد النهضة الذى يجعل الأولوية لإثيوبيا فى مياه النيل الأزرق .ومن ناحية أخرى هناك احتمالات خطر غرق أجزاء كبيرة من الدلتا نتيجة لارتفاع ماء البحر بحلول منتصف القرن . الموارد المائية المتاحة فى الميزانية المائية الحالية تتضمن إلى جانب حصة مصر من مياه النيل البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنويا موارد أخرى تقدر بنحو 20 مليار متر مكعب سنويا يتشكل الجزء الكبر منها من إعادة استخدام المياه والمياه الجوفية المتجددة المعتمدة على مياه النيل .وطبيعى أن انخفاض إيراد النهر بنحو 20 مليار مليار متر مكعب سنويا قد يؤدى إلى نقص هذه الموارد الإضافية بنحو 7 مليارات متر مكعب سنويا أى بنفس نسبة النقص فى إيراد النهر (نحو 36% ) . خلاصة الأمر أن الميزانية المائية (الموارد والاستخدامات ) لعام 2065 أو حتى لعام 2050 تظهر بما لا يدع مجالا من الشك أن إجمالى الموارد المائية المتوقعة تعجز حتى عن الوفاء بالاحتياجات المائية غير الزراعية ولان الأولوية لهذه الاحتياجات ، فلن بتاح لاحتياجات الرى والزراعة أية موارد لا سيما من المصادر العذبة . ومع ذلك فمن المحتمل أن تتوافر للرى والزراعة بعض الموارد غير التقليدية أولها من خلال معالجة مياه الصرف الصحى والصناعى وإعادة استخدامها فى الزراعة.الأمر الذى ينطوى بطبيعة الحال على مخاطر بيئية كبيرة سواء بالنسبة للصحة العامة أو نوعية المنتجات الزراعية أو تدهور نوعية التربة . ولاشك أن تكنولوجيات المعالجة ومدى تقدمها وتكلفتها تؤثر على معدلاث التلوث البيئى وكذا على تكلفة الإنتاج الزراعى باستخدام هذه النوعية من المياه ، وثانيها هو تحلية مياه البحر ،وهذه أيضا تتوقف على مدى تقدم تكنولوجيات التحلية ، وما إذا كانت تكلفة التحلية سوف تكون اقتصادية بالنسبة للإنتاج الزراعى . ونرى أن انهيار الزراعة بشكلها التقليدى الحالى سيحدث تدريجيا على مدى الخمسين عاما القادمة وليس بالضرورة بصورة فجائية فى فترة زمنية قصيرة حول نقطة الصفر .بل نقول أن الانهيار بدأ بالفعل متمثلا فى مظاهر عديدة من أهمها تناقص الرقعة الزراعية فى الوادى القديم نتيجة للزحف العمرانى والتبوير والتجريف والتصحر وتحول العمالة الزراعية إلى مهن غير زراعية والهجرة الداخلية للسكان الزراعيين إلى القطاع الحضرى وسفر العمال الزراعيين بأعداد كبيرة إلى الخارج للبحث عن فرص العمل ، وتحويل مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية فى المناطق الجديدة إلى استخدامات عمرانية. وطبيعى أن تزايد وتيرة الشح المائى بفعل العوامل التى فصلناها آنفا سوف يعمل على الإسراع بخروج الزراعة من الاقتصاد المصرى ،وإن كانت ستظل بعض الأنشطة الزراعية غير المكثفة لاستخدام المياه مثل الزراعات المحمية للخضر والنباتات الطبية والعطرية وزهور القطف ،وكذ المزارع السمكية وأنشطة الصيد البحرى والصناعات الغذائية المرتبطة بهذة المنتجات أو تلك الأنشطة التى تعتمد المستلزمات المستوردة مثل قطاع الإنتاج الداجنى والمزارع التجارية للإنتاج الحيوانى. أما كيف يواجه واضع السياسات هذه الاحتمالات ، فهذا شأن آخر.
* أستاذ الاقتصاد الزراعى- كلية الزراعة-جامعة القاهرة