إن السؤال عن موقف الدين ورؤيته فى العالم المعاصر بمستجداته وتحدياته، التى ليس آخرها وأنت تشاهد افتتاح الأوليمبياد الأخير فى باريس، وليس أولها وأنت تتابع ما يحدث فى الأرض المحتلة أو ضرب الجولان ومجدل شمس، سؤال حاضر وملحوظ أينما توجهت تلاحظه وأنت تتابع ضجيج السوشيال ميديا وفضائحها، تحول الإنسان نعم لعالمه الافتراضى، كإليكترون يتحرك ويفعل وينفعل، يرسل ويتلقى، ولكن فى كل تحركاته وفورانه لا يزال سؤال الدين والأديان حاضرًا فى كل زاوية، سياسة واجتماعًا وأسرة ومجتمعًا، وفردًا وجماعة.. بل لا نبالغ إذا قلنا إن الدين ينشط ويحضر أكثر من غيره من منظومات القيم فى كل زاوية، فعلًا وطرحًا وهجومًا وهجومًا مضادًّا. ربما كان لا بد من هذه المقدمة وأنا أعرض فى هذا المقال لمؤتمر مهم، هو المؤتمر الدولى التاسع لدار الإفتاء المصرية ودُور الإفتاء فى العالم، الذى افتُتح أمس الأول الاثنين، 29 و30 يوليو الجارى، برعاية كريمة من رئيس الجمهورية ومشاركة وفود من مائة وأربع دول من مختلف أنحاء العالم، تحت عنوان مثير وراهنى وضرورى هو« الفتوى والبناء الأخلاقى فى عالم متسارع»، نعم الأخلاق وسؤالها الذى يشغل مفكرى العالم وفلاسفته وفقهاءه ومجامعه فى كل مكان. يعبر ويجسد هذا المؤتمر والقائمون عليه وما يطرحه من أطروحات، وفعالية عصرية تواكب العصر وتحدياته فى هذه المؤسسة التى استعادت شبابها، عن قوة مصر الناعمة ونخبتها الواعية الرصينة القادرة على مواكبة الأصالة والمعاصرة. وهذا ما تؤكده أجندة المؤتمر التى أُرفقت بدعوته، وكما صرح الدكتور إبراهيم نجم، مستشار فضيلة المفتى، بعدد من الفعاليات المهمة، حيث يفتتح اليوم الأول للمؤتمر بكلمة من الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم، وعرض لفيلم تسجيلى عن الأمانة ونشاطاتها، ومراسم تسليم جائزة الإمام القرافى للتميز الإفتائى للشيخ حسين كافازوفيتش، وتلت الجلسة الافتتاحية جلسة للوفود، ثم الجلسة العلمية الأولى حول البناء الأخلاقى فى الإسلام ودور الفتوى فى تعزيزه، وورشة العمل الأولى حول صناعة ميثاق أخلاقى إفتائى للتطورات فى العلوم التجريبية والطبيعية والاجتماعية والذكاء الاصطناعى. كما تضم فعاليات اليوم الثانى للمؤتمر الجلسة العلمية الثانية حول: «الفتوى والواقع العالمى.. الأفكار والمبادئ»، والجلسة العلمية الثالثة حول: «الفتوى ومواجهة عقبات وتحديات البناء الأخلاقى لعالم متسارع»، وكذلك ورشة العمل الثانية: «الذكاء الاصطناعى وتطبيقاته فى العلوم الشرعية»، وورشة العمل الثالثة: «رصد وتحليل حول إشكاليات المحتوى الدينى والإفتائى فى المنصات الرقمية وأدوات الذكاء الاصطناعى»، ثم الجلسة الختامية والبيان الختامى الذى يلقيه المفتى، وسيعلن فيه عن عدد من المبادرات والمشروعات المهمة، ومن بينها إصدار الميثاق العالمى للقيادات الإفتائية والدينية فى صُنع السلام ومكافحة خطاب الكراهية وحل النزاعات، والإعلان عن أدلة إرشادية باللغات المختلفة فى مجالات عدة، والموسوعة العلمية للتدين الصحيح والتدين المغشوش، وأهم الدراسات التى قام بها المؤشر العالمى للفتوى، ومركز سلام لدراسات التطرف ومواجهة الإسلاموفوبيا وأهم مخرجاته، وإصدارات مجلات «جسور» و«دعم» و«الأمانة» وغيرها من المشروعات المهمة، التى يشرف عليها فريق الدار المتميز بقدرات متميزة وقادرة.. التحية لهم جميعًا. فكم هو جميل ودالّ استدعاء الإمام شهاب الدين القرافى المتوفى سنة 684 هجرية، فى هذا السياق، الحديث وما بعد الحديث، ونحن نتحدث عن الفتوى والذكاء الاصطناعى والحقن المجهرى والموقف من استئجار الأرحام، وتحديد جنس الجنين، فهى من القضايا الأكثر انتشارًا فى السنة الأخيرة، حسب المؤشر العالمى للفتوى، حيث بلغ التساؤل حولها 8.5٪ من الفتاوى، وشملت قضايا التلقيح الصناعى 45.٪ وتأجير الأرحام 31٪ من عينة الفتاوى، التى حللها المؤشر، وكم هو مهم طرح السؤال الدينى والأخلاقى القيم فى عالم ما بعد الحداثة، والسؤال عن آداب الذكاء الاصطناعى 14٪ من العينة، والمشاركة فى بناء مرجعية قيمية وأخلاقية له. إن طموح دار الإفتاء وفريقها المتميز، بقيادة فضيلة المفتى، يتجلى فى تناول هذا المؤتمر ليؤكد القدرة على مواكبة العصر ومواجهة تحدياته والتجديد الدينى والأخلاقى فى عصر التكنولوجيا والتطور الذى تصنعه وتقوده الآلة، وفى وجه الجفاف الدينى والقيمى للتحولات والأزمات الاقتصادية العالمية والوطنية على السواء، وفى وجه التطرف والفتن وتراثهما، الذى لا يزال يجثم على صدورنا منذ قرون بعيدة.. وإن البحث عن الدين والأخلاق فى زمن الثورة المعلوماتية والذكاء الاصطناعى هو السؤال الصعب للرسالات فى عصر متسارع ومختلف كما ذكر المؤتمر وعنوانه.
