ظل الغناء الشعبى أبرز الفنون، التى يظهر من خلالها التراث والثقافة القومية، لقربه من نفوس الناس، وتعبيره عن أفراحهم وأحزانهم، بلغتهم البسيطة، التى يظهر بها تفاصيل حياة أهل البلد، لتكون النبض الذى يمثل البسطاء، ساهم ذلك فى بقاء الكثير من الأغنيات والمواويل القديمة، لتتوارثها الأجيال، وتعاد أحياناً بأصوات جديدة، فى محاولات لإعادة اكتشاف التراث، والنهل من كنوزه. كانت للإسكندرية فى زمن آخر، الصدارة فى فن الغناء الشعبى فى بداية الخمسينيات، مع بداية افتتاح الإذاعة المصرية، التى كانت لإذاعة الإسكندرية مكانة بارزة بها، فتحت أبوابها للمواهب الجديدة من الأصوات الغنائية والملحنين والشعراء، لتخرج عدداً كبيراً من الفنانين المتميزين، ممن كانت أصواتهم علامات يميزها أهل المدينة حينها، برز بينهم عدد كبير من الفنانين فى اللون الشعبى، وعرفتهم الأجيال القديمة من خلال «ميكروفون» الإذاعة، الذى كان المصدر الوحيد للسمع فى هذا الزمن، و مارسوا شهرتهم داخل الثغر بحفلاتهم فى مسارحه وملاهيه وأفراحه. ورغم أفول نجم الإذاعة قليلاً كوسيلة لرعاية المواهب واستبدال الأذن والطرب بالمحتوى البصرى للأغانى الحديثة ، فإن الأغانى بقيت رغم اختفاء الأسماء، والأجيال الجديدة تعرف الأغانى التى كثيراً ما اعتاد أبناء البلد سماعها فى الرحلات والحفلات والأفراح الشعبية، وهى أغنيات شعبية خفيفة تحدت الزمن، هى أغنيات فى الأصل لمطربين سكندريين، ولدوا وعاشوا وتوفوا بها. تتذكره الأجيال القديمة بأغنيات شعبية، حظت بشهرة كبيرة فى فترتى الخمسينيات والستينيات، مثل «على عليوة»، «ياعين صلى ع النبى»، ظل صوته هو العلامة المميزة لإذاعة الإسكندرية، لفترة طويلة والتى غنى لها على مدار عشرات السنوات، مقدمات برامجها، ومسلسلاتها، بينما عرفه جمهور التليفزيون، من خلال حفلات الموسيقى العربية، التى اشتهر بها بإعادات مميزة لأغنيات منها: «يا حاسدين الناس» و«ميعاد حبيبى». عمل كذلك ملحناً لأشهر المطربين الشعبيين والطربيين من جيل الكبار مثل: كارم محمود، محمد العزبى، ليلى نظمى، محمد رشدى، عايدة الشاعر، وجيل الوسط مثل: أحمد إبراهيم، محمد ثروت، ماهر العطار، إيمان الطوخى. إبراهيم عبدالشفيع، الذى لا تعرف عنه الأجيال الشابة الكثير، هو أحد فنانى الثغر الذين رفضوا مغادرتها، رغم العروض الفنية التى انهالت عليه فى بداية شهرته. ذلك التمسك بالبقاء فى عروس البحر، هو ما منحه لقب «عاشق الإسكندرية»، الذى أطلقه عليه الإعلامى السكندرى عبدالله عبدالصبور، فى كتابه حول السيرة الذاتية للفنان. يبلغ «عبدالشفيع» حالياً 75 عاماً، ويعمل مستشاراً فنياً لفرق الموسيقى العربية بإقليم غرب ووسط الدلتا الثقافى، لا يفكر فى العودة إلى الغناء، الذى اعتزله منذ سنوات طويلة، إلا أنه هذا العام قرر أن يقدم استثناءً واحداً بغنائه فى حفل تكريمه بقصر التذوق بسيدى جابر، وسط تلامذته من الأجيال الشابة، الذين استغلوا المناسبة لتسجيل الحفل ونشره على موقع «يوتيوب» على شبكة الإنترنت، كما قاموا بنشر أغنياته القديمة على أحد المواقع الإلكترونية لتحميل الأغانى. فى لقائنا معه، اعتبر «عبدالشفيع» أن الحديث عن الظلم الذى تعرضت له الأجيال القديمة، من فنانى الثغر فى عصره، هو حديث غير منصف، فهذا الجيل، كما يقول «أخذ حقه وزيادة»، يقصد بحقه هنا فرصة الشهرة والنجومية، من خلال ميكروفون الإذاعة التى كانت جزءاً أساسياً من كل بيت مصرى، وكذلك الغناء فى الحفلات والكازينوهات والأفراح. أوضح «عبدالشفيع»: «جيلنا لم يُظلم، الجيل الجديد هو المظلوم فعلاً، جيلنا وصل للجمهور وحصل على التكريم، أما الجيل الحالى من المطربين المبدعين ففرصه ضئيلة للغاية، مثلاً شباب فرق الموسيقى العربية ممتازون، لكن لا تسلط عليهم الأضواء، غير أن أجورهم رمزية تكفى فقط مواصلاتهم ولا يوجد لهم متنفس يعرفهم منه الجمهور». قال: إن الإذاعة، بما توفره من فرز للأصوات الجيدة، بعيداً عن بهرجة الفيديو كليب وإبهار الصورة، هى الوسيلة الحقيقية للحفاظ على الطرب والتراث، وأضاف: كان زمان فيه مطرب وملحن وشاعر، الآن المطرب هو المسؤول عن كل شىء، يغنى أى كلام، وينتج لنفسه الألبومات والفيديو كليب، وتابع: «تراجعت الإذاعة بسبب قلة ميزانية الموسيقى والغناء بها، وهو ما جعلها تصبح ضد نفسها، وليس ضد الإبداع فقط، لأن جمهور الإذاعة يحب أن يستمع إلى الأغانى، وعودة الاهتمام بها هى الحل لرجوع المستمعين للإذاعة أيضاً». لا يشعر «عبدالشفيع» بالندم على بقائه فى الثغر، بعيداً عن العاصمة، وقال: إن غياب مبدعى الإسكندرية من المقيمين بها عن الخريطة الفنية المصرية، هو عرض جديد سببه إهمال المسؤولين عنها وعدم وعيهم بدورها الفنى وكيفية استغلاله، وأضاف: المسلسلات الإذاعية المصرية بدأت فى إذاعة الإسكندرية بمسلسل «سمارة»، ويعرف الجميع أن السينما أيضاً بدأت فى الإسكندرية، وكانت أغلب الأفلام تصور بها. حركة المسرح والغناء وجميع الفنون بدأت هنا، كانت دائماً مدينة سباقة فى كل شىء، وغيابها الحالى سببه سوء إدارة. وتابع «عبدالشفيع»: «شغلت مناصب كثيرة، كان يحلم بها المقيمون بالقاهرة، مثل منصب عضو مجلس إدارة المهن الموسيقية، عضو معهد الموسيقى العربية، وجمعية المؤلفين والملحنين، وناشرى الموسيقى، عضو لجنة الاستماع بالإذاعة، كما شغلت منصب وكيل نقابة الموسيقيين». حصل المطرب أيضاً على عدد كبير من دروع التكريم من جهات كثيرة، منها: مكتبة الإسكندرية، هيئة الفنون والآداب، الهيئة العامة لقصور الثقافة وغيرها من الجهات، إلا أن ما يزعجه تلك الأيام هو واقعة تسبب فيها معجبوه ومحبو فنه لتكريمه، وأوضح: ترجع أحداث القصة لندوة أقيمت منذ عدة أشهر لمناقشة كتاب سيرته الذاتية فى حضوره، عندما اقترح الجمهور بمركز الإسكندرية للإبداع، الذى كان من بينهم أساتذة من جامعة الإسكندرية ورئيس الإذاعة وبعض قيادات المجتمع السكندرى، أن يطلق اسم إبراهيم عبدالشفيع، على شارع بالمحافظة، وبالفعل أعقبت اللقاء مبادرة من أحد الحضور بجمع توقيعات الحضور للطلب الذى قدم للمحافظة، وبالفعل تمت الموافقة على الاقتراح وصدق عليه المحافظ. أضاف: «بعد أن وصلنى القرار الصادر فى جلسة المجلس الشعبى المحلى فى 14 فبراير الماضى، بإطلاق اسمى على الشارع المتفرع من 4 مايو، والواقع بين المقاولون العرب والنادى العسكرى، بمنطقة سموحة، قمت بتحضير اللافتات على نفقتى الخاصة، إلا أن قرار تعليق تلك اللافتات لم يصدر حتى الآن لسبب غير واضح». واستطرد: «عندما حاولت الاستفسار لم أجد إجابة منطقية، ربما ينتظر المسؤولون لحين وفاتى مثلما تفعل كل الجهات فى مصر، بتفضيل تكريم الموتى»، وقال «عبدالشفيع»: «إن إطلاق اسمه على أحد الشوارع لم يكن يوماً من مطالبه أو أمانيه، لكن ما يزعجه حقاً هو إذاعة الخبر أكثر من مرة فى الإذاعة والتليفزيون ونشره فى عدة جرائد حكومية، وهو ما تسبب فى إحراجه بعد عدم تنفيذ القرار».