غضب القضاة - ممن يطلقون على أنفسهم أعضاء «تيار الاستقلال» - من نتائج الانتخابات الأخيرة لنادى القضاة، وأعلنوا أن هذه النتائج تستهدف التمرير الهادىء لانتخابات الرئاسة القادمة (عام 2011)، وكذا الانتخابات البرلمانية المقبلة (عام 2010) . معنى ذلك أن عدداً من أعضاء نادى القضاة يرون أن الانتخابات القادمة يمكن أن تتم بعيداً عن أصول اللعبة الديمقراطية، وكأن ما سبقها كان قريباً من هذه الأصول ! فهذا الشعب لم يعرف - منذ أن تعلم قصة الانتخابات - إلا تجارب محدودة للغاية أكدت نتائجها حقه فى اختيار من يمثله. فأصحاب الأمر والنهى فى البلاد، سواء كانوا سياسيين أو مثقفين، يرون أن هذا الشعب لا يستحق حياة ديمقراطية حقيقية، لأن منحه الحق فى الاختيار سوف يدفعه إلى إفراز عناصر سيئة « تودى البلد فى داهية»، لذلك فواجب الحكومة أن تحميه من نفسه، ومن اختياراته الخاطئة التى يخضع فيها لحسابات الهوى. وتجد هذه الفكرة جذورها فى كتابات العديد ممن يوصفون ب «رواد التنوير»، ويأتى على رأسهم بالطبع الشيخ الإمام محمد عبده. ففى أواخر القرن التاسع عشر كتب الشيخ الإمام حول موضوع استحقاق الشعوب المتخلفة للحكم الديمقراطى، ومن المدهش أنه قارن، وهو بصدد الحديث عن هذا الموضوع بين كل من الولاياتالمتحدةوأفغانستان. ومن بين ما ذكره فى هذا السياق قوله « إننا نستحسن حالة الحكومة فى أمريكا، والحرية التامة فى انتخابات رؤساء جمهوريتها، وأعضاء نوابها ومجالسها، ونعرف مقدار السعادة التى نالها الأهالى من تلك الحالة. لكننا لا نستحسن أن تكون تلك الحالة بعينها لأفغانستان مثلاً فإنه لو فوض أمر المصالح إلى رأى الأهالى، لرأيت كل شخص وحده له مصلحة خاصة لا يرى سواها، فلا يمكن الاتفاق على نظام عام، ولو طلب منهم أن ينتخبوا مائة نائب مثلاً لرأيت كل شخص ينتخب صاحباً له أو نسيباً أو قريباً، فربما ينتخبون آلافاً مؤلفة». فمن الطبيعى - كما يتصور الإمام - أن يفرض الحاكم الشرقى نفسه على شعبه ! وكان الشيخ محمد عبده يرى أن قمة الفضل فى هذا الحاكم الذى يفرض نفسه - بالاستبداد - أن يكون عادلاً!. وفى هذا السياق جاء تأكيده على فكرة «المستبد العادل»، تلك الفكرة العجيبة التى تجمع بين أكبر تناقضين فى الحياة، وذلك بأن يكون الإنسان مستبداً وعادلاً فى آن واحد! وقد استخدم الإمام هذه الفكرة ليبرر بها حكم الأسرة الملكية التى أسسها محمد على، ذلك الحاكم الذى كان الشيخ يعتبره أكثر النماذج تمثيلاً لفكرته العبقرية. وبعد قيام ثورة يوليو عام 1952 أعادت الفكرة إنتاج نفسها بصور مختلفة، وكان النموذج الأروع الممثل لها - من وجهة نظر الكثيرين - هو الرئيس جمال عبد الناصر . فالكثير من المؤمنين بالناصرية لا يرفضون فكرة أن حكم عبد الناصر كان استبدادياً، لكنهم يؤكدون - فى المقابل - حقيقة العدل الطبقى الذى دافع عنه عبد الناصر، وأنه كان حريصاً على تأمين الاحتياجات الأساسية للمصريين. وأكثر من يتباكون على أيام عبد الناصر «الحلوة» وزمنه الجميل يؤكدون أن الناس - فى ذلك الوقت - كانوا يجدون ما يأكلون وما يشربون، ومن يلبى لهم احتياجات السكن والتعليم والعلاج، وليس مهماً بعد ذلك أن تكمم أفواهم، أو أن يحرموا من حقهم فى الاختيار، فالعقل الثقافى العام الذى تغذى على أفكار الإمام محمد عبده، وبدأت تظهر «بركاته ونفحاته» على أقلام وألسنة الكثير من المثقفين، انطلق يؤكد قيمة الاستبداد ويفخر بها ويبرر ما يخرج عن معتنقيها من أفعال، لا لشىء إلا لأن الناس تجد قوت يومها فضلاً وعدلاً من الحاكم الذى يدير البلاد!. فتقييم حقبة عبد الناصر يكاد يتجمد فى ثلاجة هذه الفكرة، ليتحدث من يعشقونه عن عدله، ومن يرفضونه عن استبداده! ومن يسمع احتجاجات هذا الفريق أو ذاك يشعر وكأن كلاً منهما يتحدث عن شخص مختلف، وليس شخصاً واحداً هو الرئيس عبد الناصر الذى انقسم إلى شخصين من منطلق فكرة الإمام محمد عبده، أحدهما مستبد والآخر عادل ! ومن اللافت للنظر أن الكثيرين يرون أن المعنى الحقيقى لعدل الحاكم يعنى توفير الاحتياجات الأساسية للشعب، من طعام وشراب وعلاج وسكن وغير ذلك . ولا يخفى ما فى هذه الرؤية من نظرة إلى البشر على أنهم مجرد كائنات غير إنسانية، لا تختلف احتياجاتهم عن الحيوانات التى تجد اليوم من يدافع عن حقوقها ! وكانت نتيجة اختزال «العدل» فى هذا المعنى أن عطاء الحاكم للشعب أصبح مرتبطاً بمزاجه الخاص «فإن شاء أعطى وإن شاء منع». والذين لم يفقدوا ذاكرتهم التاريخية بعد يعلمون أن الخديو توفيق صرخ فى وجه أحمد عرابى عندما جاءه ليعرض عليه مطالب الشعب، ورد عليه قولته الشهيرة «أى مطالب وأى شعب .. فما أنتم إلا عبيد إحساننا .. إن شئنا أعطيناكم، وإن شئنا منعناكم» . هذا «الخديو توفيق» دافع عنه الشيخ محمد عبده بضراوة حين انتقده البعض بسبب طرده السيد جمال الدين الأفغانى من مصر، والكل يعرف الصداقة التاريخية التى جمعت ما بين الأفغانى ومحمد عبده، وأن الأخير كان تلميذاً للأول، ورغم ذلك فلم يتوان الإمام عن الدفاع عن الخديو توفيق الذى طرد الأستاذ من مصر، ولم يجد غضاضة فى أن يتحدث عن البلاد التى أنجبت الأفغانى «أفغانستان» كنموذج على التخلف، وأنها مثل مصر لا تستحق حكماً ديمقراطياً ! هذه واحدة من جملة أفكار صمدت فى عقولنا زمناً طويلاً، وأصبحت بمرور الوقت أشبه بالأصنام المعبودة التى لا يستطيع أن يقترب منها أحد بالنقد . ولا خلاف على أن سيادة هذا التفكير «الصنمى» على مجتمع يقدم مؤشراً لا يخطىء عن غياب العقل والتفكير العقلانى عنه، ويجعله شبيهاً بذلك المجتمع الذى واجهه نبى الله إبراهيم - عليه السلام - بقوله «ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون». والقارىء لسيرة هذا النبى العطرة يعلم أن أول خطوة خطاها للتعامل مع هذا المجتمع الذى فقد عقله أن يحطم الأصنام التى يعكفون عليها .. إلا كبيرهم طبعاً! ■