لم يكن السلطان البيكيكى فريداً فى التجائه إلى الأعداء ومظاهرته لهم على أهله وتقديم العون لهم فى حملاتهم على بلاد المسلمين، ولم يكن وحده من يطلب منهم العون فى صراعاته مع أشقائه ورغبته فى إبقاء العرش فى ذريته من بعده. كان مثله كثير من حكام الولايات الإسلامية الذين تباروا فى إظهار الخضوع للأعداء من أجل الحفاظ على العروش، لكن كان للسلطان البيكيكى فضل التحليق إلى آفاق غير مسبوقة فى هذا المضمار وضحت بشكل جلى عند حصار بلنسية حين شارك بنفسه فى هذا الحصار ورفض حتى أن يداوى الجرحى من أبناء المدينة المحاصرة حتى تشرد أهلها وصاروا لاجئين فى المنافى. وقد وصف ابن الأبّار موقفه يومئذ بعد أن فقد كل شىء وأرغم على ترك وطنه فى بيتين من الشعر بعث بهما إلى بعض أصحابه بعد مغادرته بلنسية، قال: الحمد لله لا أهل ولا ولدُ.. ولا قرار ولا صبر ولا جلدُ. كان الزمان لنا سلماً إلى أمدٍ.. فعاد حرباً لنا لمّا انقضى الأمدُ. ومن أمثلة حالة التفريط التى سرت بين ملوك ذلك الزمان ما كان من علاقات حميمة بين الخلافة الموحدية فى الأندلس وفى مراكش وبين الكرسى الرسولى وذلك فى ذروة الحملات الصليبية على بيت المقدس، وفى ذروة تعضيد البابا للحرب على المسلمين فى المشرق والمغرب. وقد بدأت هذه العلاقة منذ عصر الخليفة المأمون الموحدى، ذلك أن المأمون استنصر بفرناندو الثالث ملك قشتالة لكى يمده بقوة من المرتزقة القشتاليين، وقد اشترط فرناندو مقابل ذلك الحصول على عدد من الحصون الأندلسية نزل عنها المأمون فوراً، غير شروط أخرى منها أن يبنى فى مراكش كنيسة لجنوده، ومنها أنه إذا أسلم أحد الجنود الإسبان فلا يُقبل إسلامه بل يرد إلى إخوانه يقضون فى أمره وفق ما يرون، ولكن إن تنصّر أحد المسلمين فليس لأحد عليه سبيل. هذا وقد قبل المأمون كل هذه الشروط واستقبل على أرضه قوات من المرتزقة كان لها اليد العليا فى قصر الخلافة الموحدى. أما السلطان البيكيكى فقد وجد نفسه فى موقف لا يحسد عليه بعد أن تلقى رسالة عنيفة من حاكم إمارة الساحل البندقى يحذره فيها من التساهل أو التراخى فى القبض على المطجن البصاص، وشعر السلطان الذى وجد نفسه يتعرض لضغوط من عدة دوائر بالحيرة، وقد فكر كالعادة فى الالتجاء لأعداء المسلمين، غير أن هؤلاء يبدو أنهم قد ضاقوا به ذرعاً، ولم يعد وجوده يقنعهم رغم الاستعداد للتفريط إلى آخر مدى، وذلك بسبب الكراهية والمقت الشديدين اللذين كان يحظى بهما السلطان بين الناس، وقد فكر الفرنجة بجدية فى الاستيلاء على بلاده بدلاً من أن يتركوه يحكمها كوكيل عنهم، أو أن يمنحوا الحكم لصديق آخر لهم لا تكون حقيقته وولاءه للأعداء قد اتضحت للناس بعد! استدعى السلطان أركان حكمه حتى يروا ما هم صانعون إزاء ضغوط الأمير فارس المختوم بعد أن تعرضوا للإهانة من جانب المطجن البصاص الذى عبث بالجندرمة واستهان بالعسس، فهرب من السجن وخطف البندرية ابنة شهبندر التجار، ثم أخذ يقوم بغارات ليلية على المدينة كانت أخبارها تصل لأمير الساحل البندقى الذى اشتد حنقه وهدد بقطع المعونة التى كان يرسلها للسلطان ومنها كان هذا يقوم بدفع الجزية للإسبان. كان الوزراء والمستشارون فى بلاطه يتربص بعضهم ببعض ويكيد أحدهم للآخر. أشار عليه كبير المستشارين فى البلاط وهو يهودى يدعى شارماخ الأطاطى بضرورة إعادة المطجن إلى السجن بأى ثمن..قالها وهو ينظر بتهكم إلى «أبو الحسن المراكبى» الذى انكمش فى مقعده وغمغم بكلمات غير مفهومة وهو ينظر بحقد إلى شارماخ الماكر.كان السلطان يعتمد كثيراً على شارماخ الأطاطى ويفضله على من عداه من الأشرار الذين أحاط نفسه بهم لتفوقه عليهم فى الأساليب الشيطانية وقدرته على إيجاد الحلول، وكان السلطان فى الوقت نفسه يحتاج بشدة إلى أن يستعيد مهابته وسط الرعية وبين الممالك المجاورة وفى مواجهة المتربصين الذين يسعون لتقديم أنفسهم للفرنجة كوكلاء بديلين عن البيكيكى الذى يظنه الجميع قد أضحى عاجزاً وغير قادر على الفعل بعد أن بلغ من العمر عتياً. وجّه السلطان إلى رئيس الجندرمة نظرات نارية وصاح به أن يتصرف وإلا قطع رأسه وعلقها على بوابة المدينة. هتف شارماخ طارحاً فكرة وجدها تفى بالمطلوب: يا عظمة السلطان، سواء نجح أبو الحسن فى القبض على المجرم أو فشل كالعادة فالحل أن نقدم للناس أى شخص على أنه هو المطجن البصاص، ونعلن عليهم تفاصيل القبض عليه، ولا ننسى أن نشيد بجهود أبو الحسن المراكبى ورجاله التى كللت بالتوفيق! وأضاف شارماخ: وعلى الشيخ عجينة أن يدعو من فوق المنبر للسلطان أن يديمه الله على الأمة لأنه هو الذى يحفظ لها أمنها ومهابتها ويبعد عنها الأخطار بعظيم حكمته التى وسعت حتى فاضت على الممالك المجاورة.. وأكمل شارماخ: وعلينا أن نضغط على القاضى ابن عقيل بكل السبل حتى ينهى القضية بأسرع وقت، أما فكرة الحصول على القاتل البديل فهى موكولة للسيد أبو الحسن المراكبى، وهى على أى حال ليست جديدة عليه فقد تمرس من زمان على تلفيق التهم للأبرياء وتقديمهم للمحاكمة مشفوعين بالأدلة الزائفة، وله فى ذلك مدرسة وتلاميذ. أعجبت أفكار شارماخ السلطان البيكيكى وشعر بالارتياح لوجود المستشار اليهودى الذى يفتيه فى كل شىء ويقف إلى جانبه بكل إخلاص ويختار له وزراءه ومعاونيه ويبعد عنه كل من يلمس فيهم صدقاً أو حباً للبلاد، وإلى شارماخ الأطاطى تعود كل القسوة التى يوجهها السلطان نحو أهله! فى هذه الأثناء كان المطجن قد انصرف بعيداً عن النهر حيث الجند المتربصون واتجه صوب المدينة فسطا على بعض المحال وأحضر طعاماً وشراباً ثم كرّ عائداً من خلال المسالك الوعرة إلى كهف العفريت حيث ترك البندرية. دخل المطجن بخطى هادئة حتى لا يزعج محبوبته ودنا من فراشها فاكتشف لدهشته خلو الفراش. بحث عنها يمنة ويسرة فلم يجد لها أثراً بالكهف فجن جنونه وأخذ يصرخ صرخات مخيفة بينما انطلق يعدو خارج الكهف، فعثر على آثار أقدامها تتجه نحو المنحدر بجوار جدول الماء فأخذ فى تتبع الأثر وهو لا يكُف عن إطلاق صيحات الغضب وكأنما أصابه مس من الجنون. كانت الآثار واضحة فمشى خلفها وأدرك أن مسافة كبيرة تفصلها عنه..لا شك أنها استيقظت وشرعت فى الهرب منذ ساعات، وفى طريقه فى أثرها وجد المطجن الشال الحرير الخاص بالبندرية عالقاً بفرع شجرة فأدرك أنها قريبة وخفق قلبه وأخذ يسرع الخطى، وانتابه خوف حقيقى من أن يكون أصابها مكروه، حيث إنها بعد جدول الماء سلكت درباً مهجوراً تسكنه الأفاعى وتبيت فى جحوره الثعالب وتنتشر على أطرافه الذئاب المفترسة، لهذا فقد أُطلق عليه درب الذئاب. ندم المطجن أشد الندم على أنه تركها وحدها وأخذ يدور حول نفسه وهو يهذى، وفجأة جمد فى مكانه بعد أن أبصر خيطاً من الدم تحت قدميه، فمضى خلفه ودقات قلبه المتسارعة تكاد تُسمع فى الفضاء الموحش المحيط بدرب الذئاب المفترسة.