بيعة الحاكم واستمرارها ودوامها مرهونة بنجاح الحاكم فى إدارة مصالح الرعية، فإذا خالف الحاكم نصوص البيعة وتعهداته وقسمه وفشل فى إدارة مصالح رعيته وجبت إقالته إما بالحسنى أو بالسيئة، فإذا دفع بالتى هى أحسن واعتزل بإرادته فقد جنب نفسه والعباد مشقة السيئة، والبيعة فى التاريخ الإسلامى كانت بيعة خاصة وليست بيعة عامة لعموم المسلمين، فبيعة أبى بكر الصديق تمت فى سقيفة بنى ساعدة من صفوة الأنصار والمهاجرين، فى عدم وجود على بن أبى طالب، الذى كان مشغولاً بتجهيز جثمان النبى، صلى الله عليه وسلم، لدفنه ومعه العباس، عم النبى، وهم قرابته وعشيرته، وهم الذين منعوا البيعة عن أبى بكر ستة أشهر حتى لحقت السيدة فاطمة الزهراء بأبيها، وكان الأنصار قد اختاروا سعد بن عبادة خليفة للمسلمين قبل وصول عمر وأبى بكر للاجتماع، وبعد مناقشات حادة بسط أبوبكر يده لعمر ليبايعه خليفة فقال عمر كلمته المأثورة: «لقد اختارك لديننا واخترناك لدنيانا» فأبسط يدك لأبايعك، وتمت البيعة لأبى بكر. وفى بيعة عمر بن الخطاب تمت تزكيته وترشيحه من الخليفة أبى بكر وهو على فراش الموت بعد دس السم له، فبايعه الحاضرون، فمنهم من بايع خائفاً من شدته وبأسه، ومنهم من بايع حرجاً من الخليفة أبى بكر، ومنهم من بايع من أهله وعشيرته حباً فيه، وبيعة عثمان بن عفان تمت بترشيح الخليفة عمر، بعد طعنه بخنجر مسموم، لستة من الصحابة ليختاروا فيما بينهم خليفة للمسلمين وهم: عثمان وعلى وطلحة والزبير وابن عوف وأبوعُبيدة، على أن يُرجح كفة الاختيار عبدالله بن عمر إذا تساوت أصوات المبايعين، فإذا اعتبرنا المُبايعين هم أهل الحل والعقد فهى بيعة خاصة لا يلتزم بها عموم المسلمين إذا كان الاختيار غير صائب. من الثابت أنه ليست هناك قاعدة شرعية واحدة لبيعة الخليفة، فكل خليفة كان لبيعته ظرف خاص فرضته أحداث المرحلة، وكل الخلفاء كانوا على فراش الموت، إما مقتولاً أو مسموماً، وأوجبت الأحداث ضرورة بيعة خليفة جديد. وليس هناك أيضاً ضوابط شرعية لسحب البيعة من الخليفة أو الرئيس، فإما أن تنبع من ضميره الحى إذا رأى فى رعيته رفضاً لاستمرار بيعته، فيُقرر إما أن يعتزل أو يتقدم لتجديد البيعة «انتخابات رئاسية جديدة»، أو يتم خلعه «إسقاطه» بإرادة شعبية كما حدث للخليفة عثمان الذى خيره الثوار بين أمر من ثلاثة: إما أن يُقدم للمساءلة شأنه شأن أى مسلم يُخطئ ويعاقب ويستمر بعدها خليفة، أو يعتزل بإرادته، أو يُرسلوا من يعزله قهراً وجبراً. وحين خاطب الخليفة جُموع المسلمين على المنبر، رافضاً خلع قميص ألبسه الله له، وهو الخلافة، وقوله «هل كنت أكرهتكم حتى بايعتم» يضع الخلافة فى مقام البيعة الأبدية ويحصنها تحصيناً إلهياً. وهذا ما صار عليه أولاد عمومته بنو أمية، الذين اعتبروا أن الريادة عادت إليهم، حتى قال أبو سفيان: «يا بنى أمية عضوا عليها بالنواجذ»- يقصد الخلافة- فكانت لهم الريادة والسيادة وسقاية الحجيج، وكانت فى حجرهم من أيام جدهم الأكبر قصى بن كلاب، التى سلبها منهم أولاد عمومتهم بنو عبد مناف قبل الإسلام، فعادت إليهم بعودتها إلى معاوية بن أبى سفيان، واستكمالاً لفكرة تأسيس المُلك العضوض أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد قهراً وبفتاوى مشايخه أثناء مرضه، فخرج منهم من يُزين له سوء عمله فأفتوا «ستون سنة مع إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان»، وهى ليلة موت معاوية المُنتظرة، ولقد حصن معاوية قراراته ودستوره بتحصين إلهى حين استنطق مشايخه أحاديث وضعوها عن رسول الله، حين زعموا أن الرسول قال «إن الوحى فى حماية ثلاثة: أنا وجبريل ومعاوية»، ورواية أن الرسول ترك رمحه لمعاوية وقال له: «قابلنى به عند الجنة». هذا التحصين الشرعى المزيف أرادوا به تخليد الخلافة وعصمتها. ولقد أجبر يزيد بن معاوية أهل المدينة على بيعته بعد مقتل الحسين فى كربلاء واستباحها ثلاث ليالٍ اغتصبوا فيها النساء وشردوا الأطفال ونهبوا الأموال وأسقطوا الحوامل، ثم أفتى مشايخهم بعدم جواز الخروج على الحاكم الظالم الفاسق أو سحب البيعة منه «يأخذها بالقهر شرعاً ونقبل الذل والهوان شرعاً، وتخضع له الرقاب وتدين له البلاد والعباد شرعاً». قواعد بيعة الحاكم والخروج عليه هى قاعدة سياسية فى المقام الأول، وضعها الحكام والأمراء بمساعدة مشايخهم وفتاواهم، فمنهم من يحافظ على ملكه واستمراره بفتوى تحريم الخروج على الحاكم وإن كان ظالماً فاسقاً ليستمر فى حكمه له ولأولاده من بعده ظالماً فاسقاً. ومنهم من يحاول إسقاط هذا الحكم والاستيلاء عليه له ولأولاده من بعده تحت مظلة فتاوى مشايخه، فأجازوا له الخروج على الحاكم الظالم الفاسق. فالرسول، عليه الصلاة والسلام، لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، هى عمر الدعوة المحمدية التى أحصت كل شىء، لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لم يضع قاعدة ثابتة فى هذا الأمر، وتركها حرية للعباد حسب تطور العصور والأزمان. فكيف يخرج الجائع شاهراً سيفه على الناس ولا يخرج على الحاكم إذا حرمه نعمة الأمن والكساء والغذاء؟!.. رحم الله أبا ذر الغفارى.