تابعت باهتمام شديد مقالات الأستاذ الدكتور حسن نافعة فى «المصرى اليوم» عن هذا الموضوع، وهو اهتمام ينبع من أمرين، الأمر الأول: أهمية الموضوع وخطورته، والأمر الثانى: أن حسن نافعة منذ عرفته منذ أكثر من ثلاثين عاماً رجل جاد وباحث متعمق وأكاديمى من طراز رفيع ومهموم بأمر مصر حتى النخاع. وأعتقد أن هذين الأمرين يدفعان للاهتمام بقراءة مقالات الدكتور حسن نافعة عن النظام السياسى فى مصر ومشكلة توريث الحكم، ويدفعان أيضاً للتعليق عليها، وهو ما سأحاول القيام به. مقالات الدكتور حسن تشير إلى أن هناك أزمة تواجه المصريين سواء فى ذلك جماهير الناس أو النخب السياسية أو نظام الحكم نفسه وهذه الأزمة تتمثل فى: «أن النظام وصل إلى مفترق طرق وليس أمامه سوى أمرين، أحلاهما مر، الأمر الأول هو التجديد لرئيس تجاوز الثمانين من عمره لفترة ولاية سادسة تنتهى وهو على مشارف التسعين أو تنصيب نجله فى حال ما إذا قرر الأب عدم الترشيح فى الانتخابات الرئاسية المقبلة». ويرى الدكتور حسن أنه يصعب تصور أن تقبل مصر بأى من هذين الخيارين، وأن على النخبة فى هذا البلد أن تبحث عن خيارات أخرى. وهناك تساؤل مشروع قبل التعليق على مقالات الدكتور حسن وما أثارته من فروض وأفكار. التساؤل هو: هل هناك أزمة على أرض الواقع المصرى؟ نعم هناك أزمة بل أزمات. ولكن فى مواجهة من؟ هل يشعر نظام الحكم فى مصر أن هناك أزمة تواجهه؟ الذى يتابع عناوين الصحف القومية فى الأسابيع الأخيرة يرى تحركات ونشاطات غير مسبوقة للسيد الرئيس محمد حسنى مبارك، فهو اليوم يفتتح محطة لمياه الشرب فى هذه المحافظة، وهو يسلم عقود تمليك منازل للمواطنين، وهو يفتتح مشروعات للصرف الصحى، وهو يعطى توجيهاته بمواجهة ارتفاع الأسعار تخفيفاً عن محدودى الدخل، وقبل ذلك كله وبعد ذلك كله، يصدر أوامره لاحتواء أزمة أنفلونزا الخنازير والقضاء على أكوام القمامة التى أصبحت تحيط بأحياء القاهرة إحاطة السوار بالمعصم. المهم أن الجرائد القومية وعناوين صفحاتها الأولى تتابع تحركات وأنشطة السيد الرئيس باهتمام بالغ يستحقه، فهل ينبئ شىء من ذلك عن أزمة تواجه النظام؟ الذى أحسست به أن الأزمة فى عقولنا نحن من نسمى أنفسنا أو من يسمينا الناس «النخبة». والذى أحسست به أيضاً من هذا النشاط المكثف وغير المسبوق أن الرئيس يريد أن يرسل للشعب رسالة واضحة، مفادها أنه يصمم على الوفاء بوعده للشعب المصرى، عندما قال إنه باق يتحمل المسؤولية حتى آخر نًفس فى حياته. أعطاه الله الصحة وطول العمر. وهذه الرسالة الواضحة تعنى أنه ليس هناك أى احتمال لتوريث السلطة فى القريب أو على الأقل قبل انتخابات الرئاسة القادمة، وقد تكفلت المادة السادسة والسبعون من الدستور بعد تعديلها الأخير بإحكام الأمور بحيث لا يستطيع أحد أن يلج انتخابات الرئاسة إلا السيد رئيس الحزب الوطنى أو من يزكيه رئيس الحزب الوطنى. هكذا أحكم وضع المادة 76 من الدستور بحكم التعديل الأخير. وحتى إذا استطاع أحد أن يغامر ونجح فى اجتياز كل العقبات ورشح نفسه فإن آليات العملية الانتخابية نفسها كفيلة برده على أعقابه خاسراً وهو حسير. هذا هو الوضع على الأرض. النظام يعرف ما يريد ويملك وسائله لتحقيق ذلك، فهل يمكن تغيير هذا الوضع؟ لا شىء مستحيل ولكن هذا التغيير يقتضى مقدمات ضرورية،أولاها تتعلق بالنخب السياسية خاصة والمعارضة عامة. هذا التشرذم الذى تعيشه النخب السياسية وهذا الهوان الذى تعيشه الأحزاب الشرعية لا يوحى بخير قط إذا بقيت الأمور على حالها. الأزمة إذن موجودة ولكنها ليست فى مواجهة النظام. الأزمة فى مواجهة القوى السياسية التى تعارض النظام وترى تغيير الواقع الذى يتركز عليه تمهيداً لتغييره. فهل تملك المعارضة الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك؟ تقديرى أن الصورة القائمة، وأن المحاولات السابقة لتجميع صفوف المعارضة وإقامة نوع من الجبهة القومية وفشل هذه المحاولات أو على الأقل عدم اكتمالها، لا تبشر بخير قريب. نعم هناك أكثر من محاولة، وأغلبها محاولات مخلصة وجادة ولكن كثيراً منها ينفرط عقدها قبل اكتمال المحاولة. وليس ذلك لنقص فى الإخلاص أو عدم الإيمان بضرورة الجبهة، ولكن الذى حدث هو أن الواقع لم يشهد ولادة هذا الأمل بعد. فى اجتماع أخير يهدف إلى إحياء المحاولة قال أحد المشاركين إن هناك على الأقل عشر مجموعات تقوم بالمحاولة نفسها، وتكاد تلتقى على الأهداف نفسها ولكنها بعيدة عن بعضها. وتعهد هذا الزميل بأن يقدم للمجموعة فى اجتماع قادم بياناً بهذه المجموعات وما تحاول أن تسعى إلى تحقيقه من أهداف. وتقديرى أن النخب السياسية ومجموعات المعارضة، سواء المنظمة أو غير المنظمة، تلتقى كلها على هدف أوّلى لا خلاف عليه بين أحد منهم، ألا وهو ضرورة وضع دستور جديد لا يقطع الصلة بالماضى ولكن يحسنه ويضيف إليه. دستور ديمقراطى برلمانى مع الأخذ فى الاعتبار أن الأنظمة السياسية لم تعد قوالب جامدة كما كانت من قبل، وخير شاهد على ذلك دستور 1958 فى فرنسا الذى يستند أساساً إلى النظام الديمقراطى البرلمانى ومع ذلك يحرص على أن يقوى السلطة التنفيذية دون أن تتغول على غيرها من السلطات. المهم دستور يأخذ من دستور 1923 ومن مشروع دستور 1954 ومن دستور 1971 أفضل ما فيها ويتجنب ما فيها من أحكام لم تعد تصلح لهذا الزمن. دستور يقوم على التوازن بين السلطات وعلى حرية تكوين الأحزاب واستقلال القضاء وسيادة القانون وتداول السلطة وعدم تأبيدها وحظر البقاء فى السلطة لأكثر من مدتين كل منهما خمس أو ست سنوات على الأكثر، ويحظر تعديل هذا النص حتى لا يكون الأمر لعبة بأيدى البعض. أعتقد أن هذا الهدف هدف الدستور الديمقراطى البرلمانى الذى يقوم على القواعد السابقة هو الهدف الذى لا يختلف عليه أحد من الفرقاء الموجودين على الساحة السياسية، ومن ثم فإن هذا الهدف قادر على تجميع كل القوى المخلصة الراغبة فى إنقاذ هذا البلد من أزماته المتعددة التى تتزايد وتتراكم يوماً بعد يوم، والتى يوشك النظام ألا يحس بها، لأن بوصلته محددة بالبقاء واستمرار البقاء والاستئثار بكل شىء، وإقصاء كل الأطراف الأخرى عن كل شىء ويتحقق له ذلك بامتلاك قوى القهر والإكراه فحسب. تقديرى أن هذا التيار الذى يدعو إليه حسن نافعة، ويدعو إليه كل المخلصين، قادر على التحقق بل إنه حتمى التحقيق فى أقرب وقت ممكن. إن مصر بلد حضارى وشعبها فرّاز وولاّد ولا يمكن أن يكون عقيماً إلى الحد الذى يبدو فى الظاهر. إن تياراً قوياً يتكون من دون أن نراه على السطح، وهذا التيار يجمع كل المخلصين من أبناء هذا الوطن المؤمنين به والعاملين على ضرورة إنقاذه. صحيح أن الشاعر العذب فاروق جويدة يقول إن المواطن المصرى لم تعد تعنيه قضايا الحريات وحقوق الإنسان وما يسمى بالديمقراطية وهو يلهث وراء مستشفى يعالجه أو كوب ماء يشربه أو مدرسة تعلم أبناءه. كل هذا صحيح ولكن مهمة النخبة أن تقول للشعب إن نظام الحكم الديمقراطى الذى يختاره الناس هو وحده القادر على أن يوفر لهم ذلك كله، كما هو حادث فى بلاد العالم الديمقراطى الأخرى. إن تشكيل هذا التيار للجبهة الوطنية المؤمنة بالدستور الديمقراطى البرلمانى وبالدولة المدنية، وبأن المواطنة هى أساس الدولة الحديثة وبأن المواطنين جميعاً أمام القانون سواء إن تشكيل هذا التيار لهذه الجبهة الوطنية أصبح أمراً لا محيص عنه، وأصبح أمراً لا يحتمل الإرجاء الطويل. يا دعاة الخلاص هلموا مصر تناديكم فلبوا النداء.