تطرقت فى مقال سابق عن تداعيات التعليم المصرى، أولا من حيث الفوضى النابعة من الكم الهائل من التلقيم المعلوماتى غير المنظم الذى يتعرض له الطالب، الذى ينتج عنه فى النهاية ذهن مشوش، لا يجيد عمليات التنظيم الفكرى، بما تتطلبه من مهارات التحليل والربط بين المعطيات.. وقلت أيضا إن، فى مجال العلوم الإنسانية، ما يدعم تلك الفوضى الفكرية، جانب منظم ظاهريا ونابع من أيديولوجيا حكام مصر خلال النصف الثانى من القرن العشرين، والذى يتجسد فى مناهج التاريخ والعلوم الاجتماعية التى يظهر العالم الخارجى من خلالها فقط كعدو متآمر- لا يدرس تاريخه الاجتماعى والفكرى بأى نوع من التفصيل، إنما يظهر فقط من خلال صراعه الأزلى مع مصر والعرب، فى سياق فكرى فوضوى لا يسمح للطالب بنقد أو تحليل أو تفنيد ما يتعلمه، أو فهم ما يحرك الآخر بأسلوب موضوعى. ينعكس هذا الوضع، وبطريقة مباشرة وجذرية، على معضلة فشلنا فى تطوير الفكر العلمى ومنتجاته.. أولا، ولأسباب بديهية، فتعلم العلوم الطبيعية يتطلب، ربما أكثر من تعلم العلوم الإنسانية، اكتساب طرق التحليل والربط السببى المنظم، المستند للمنطق ولمعلومات عن العالم الطبيعى تم تنظيمها وتفنيدها فى سبيل الربط بينها بأبسط الطرق الممكنة، لينتج عن تلك العملية فى النهاية نظرية منظمة للعامل المادى الذى يحيطنا، حتى لا يبدو كسيل هائل من الفوضى والعشوائية المعلوماتية.. هذه المنظومة التنظيمية للعالم هى التى يمكن استخدامها فيما بعد لتفعيل طرق الاستغلال التقنى للمعرفة الناتجة عنها فى سبيل إنجاز تقدم تقنى نافع فى الحياة العملية، وهى التى ينتج عنها التقدم المادى والاقتصادى. يعتقد الكثير فى مصر والعالم العربى أنه يمكن فصل ذلك التقدم التقنى التكنولوجى عن المنظومة الفكرية التى أنتجته، لكن الحال بالقطع ليس كذلك.. ثانيا، أن الجهل بتطورات تاريخ الغرب لا بد أن ينعكس على استيعابنا للعلوم الأساسية، ليس فقط فى مجال العلوم الإنسانية، إنما فى الأساس فى مجال العلوم الطبيعية «الصلبة»، ذلك لأن العلم فى صورته الحديثة هو منتج غربى، ولذلك فهو مرتبط بتاريخ تطور الغرب بطريقه وثيقة، بل إن أى فهم عميق لتطور العلوم الطبيعية لا يمكن أن يأتى فى خارج السياق التاريخى الذى تم فيه ذلك التطور.. لذلك، أعتقد أن شعار «فلنبدأ حيث انتهى الآخرون»، هو شعار سطحى ومغلوط وخال من أى معنى جاد، لأننا لا يمكن أن نبدأ إلا من حيث بدأ الآخرون، وذلك يتطلب فهم التطورات الفكرية التى صاحبت نمو العلوم الطبيعية.. وأيضا، وهذا ربما هو الأهم، فهم تأثير تطور العلوم الطبيعية على الفكر الإنسانى والتطور الاجتماعى. ولا يترتب على محاولة فهم تاريخ المجتمعات التى قادت تقدم البشرية خلال القرون الماضية أن نقبل كل ما حدث فيها أو نفقد هويتنا ونستبدلها بهوية أجنبية. لأن الفهم ليس مرادفا للنقل: لأننا نريد فهم هذا التطور لتطبيقه فى سياقنا الحضارى الخاص، وليس «حفظ» وتلقين ونقل التطور الاجتماعى الغربى بطريقة عمياء، فهذا ما تفعله أغلبية النخب العربية حاليا بالفعل، وبدون نتيجة إيجابية ملحوظة على مجتمعاتها.. ما أعنيه هو شىء عكس ذلك تماما، ويتعلق باستيعاب منطق المنظومة العقلانية المنظمة التى نتج عنها العالم الحديث، ولا يتطلب ذلك نقل الحضارة الغربية حرفيا، لكن مع ذلك يتطلب انقلابا فكريا جذريا لا محالة أن تكون له آثار ثقافية واجتمعاية وسياسية علينا.. المطلوب هو الرد على الأسئلة التالية: ما هى فعلا مقومات التقدم العلمى، وما هو جوهر الطريقة العلمية، وكيف يمكن بناء مجتمع تتجسد فيه تلك القيم؟ مجتمع تتخلله الحرية الفكرية، التى تدعم الابتكار وتعدد الأفكار واستقلال الفرد، مجتمع لا يرجع المرء فيه فى كل صغيرة للسلطة السياسية أو الدينية فى سبيل تكوين آرائه أو تبرير تصرفاته، إنما يرجع لقراره المستقل الحر وللقوانين المنظمة للمجتمع التى شرعتها سلطة تشريعية من اختياره وحسب المقومات التى اختارها بحرية.. الإنسان يصير حرا لأنه عقلانى، لأنه يقبل أو يرفض ما حوله لأسباب وصل إليها بنفسه وليس لأن أحد السياسيين أو رجال الدين قد أفتى بذلك.. الحرية التى ينتج عنها التطور العلمى تتطلب ذلك، فهل نحن مستعدون للقيام بمثل هذه القفزة؟ فى اعتقادى أنه لابد أن يفكر ويتأمل، كل من يطالب بالتطور العلمى والتقنى، فى ذلك جيدا. وهناك مثال مفيد، يتجسد فى الدولة الوحيدة خارج الغرب يمكن أن يقال إنها متقدمة علميا وتقنيا فعلا، الدولة الوحيدة من هذا النوع المنتمية لمجموعة الدول الصناعية الكبرى، وهى اليابان، الدولة التى قررت فى منتصف القرن التاسع عشر، أن تقاوم العدوان والاحتلال عن طريق الانفتاح على العالم وليس فى الهروب منه والتقوقع، عن طريق نقل منطقه الفكرى وليس فقط تقنياته العملية. وكانت من ضمن نتائج ذلك التحول حصول «هيديكى يوكاوا» على جائزة نوبل فى الفيزياء عام 1949، ثم بعد الحرب العالمية تم إقامة نظام ديمقراطى تعددى ليبرالى وصارت اليابان جزءا من العالم الحر، المتقدم علميا وفكريا واجتماعيا. ومع ذلك لم تفقد هويتها الخاصة.. وكما كتب طه حسين منذ أكثر من سبعة عقود، إذ استطاعت اليابان فعل ذلك، وهى الحضارة المنعزلة عن الغرب طوال تاريخها تقريبا، فبلادنا التى ارتبط تاريخها عضويا بتاريخ أوروبا أولى بذلك. [email protected]