بعد ندمه العلنى عن وقف عمليات ضرب وقمع تلاميذ مصر، طلع علينا وزير التعليم الجديد بفتوى تقر بإلزام كل مدارس البلاد، حكومية وخاصة وأجنبية، بتحية العلم وترديد نشيد الصباح. فى الوهلة الأولى يبدو من الصعب الاعتراض على هذا القرار، لكن هناك مشاكل عملية وفكرية عدة تختبئ فى نهجه الوطنى ظاهرياً. أولاً: بعض المدارس الأجنبية لا تنظم أى طوابير صباح من الأصل- لأنه لا توجد أساساً طوابير صباح فى أغلبية مدارس الدول المدنية الحرة المعاصرة، التى تتبعها معظم تلك المدارس. لكن ما هو لافت للنظر فعلا يتمثل فى سطحية النهج الذى يهتم أولا بمثل هذه الأشياء الشكلية، والذى يبدو أنه نابع عن ذهن مغرم بعالم الشعائر- أو اللغة الفكرية التى تلقى عرض الحائط بالتفاصيل فى سبيل إرضاء غرامها الصور المثالية، جذابة المنظر، التى ربما تساعد على إحاطة من تبناها بهالة الجدية والوطنية والانتماء. فالوطنية الرصينة تتطلب طرح سؤال بدهى لم يتطرق إليه السيد الوزير على حسب علمى: لماذا تبعث النخب المصرية بأولادها لمدارس أجنبية من الأصل؟ لماذا تفضلها، إذا تيسر الحال، على أفضل المدارس المصرية؟ لأن تلك المدارس تدرس مناهج متطورة مستوردة من الخارج، مناهج يتعلم من خلالها الطالب تقنيات تحليل المعطيات، والربط المنطقى السببى بينها، ونقد النظريات، بدلاً من مناهج تتبنى نهج التلقين والحفظ والترديد الأعمى للشعارات السابحة فى هواء خطابى، مفتقدة توجيه دفة العقل والعقلانية- أى نفس النهج الذى ينبع منه كلام الوزير. هل يمكن أن تعوض طقوس تحية العلم والنشيد الوطنى عن هذا الواقع الملموس، أم أنها قد تؤدى، على العكس، للاستهزاء بتلك الرموز، عندما يلاحظ التلاميذ الفجوة الواسعة والعميقة الفاصلة بين الشعارات الملقنة وبؤس أرض الواقع؟ هل يكرس ذلك وطنيتهم، أم يجعلهم لا يأخذون أى شىء بجدية؟ قد أشرت فى المقال السابق لنظرية كارل دويتش، المتعلقة بأهمية الإعلام فى عملية تبلور نظرة مشتركة للعالم، التى يتبناها أفراد الأمة الواحدة نتيجة تبادل المعلومات والمفاهيم التى تنعكس فى النهاية فى لغة فكرية مشتركة يمكن من خلالها تفسير الأحداث وتقييم أهميتها ومعانيها، واختيار الأسباب التى تربط بينها.. وفى إضافة مهمة لنظرية «دويتش»، اعتبر أرنست جلنر أن طبيعة تلك المعلومات المتبادلة نفسها لا تهم كثيراً، فالأهم هو أن تكون مفهومة ومقنعة للناس: أى أن الوطنية والإحساس بالانتماء لا يمكن تلقينهما فقط من خلال الدعاية والحملات الشعائرية، فلا فائدة من التلقين فى حالة عدم وجود نسبة مناسبة من الناس يمكن أن تفهما الخطاب العام المتداول، وتأخذه مأخذة الجد وتقتنع به.. وقد يفشل الخطاب الموجه، الهادف إلى الشحن والتعبئة والغارق فى شعارات القومية والوحدة والوطنية، فى فعل ذلك، بينما ينجح الحوار الحر التعددى، بل إن التجربة تفيد بأن الرؤية المشتركة للعالم، المطلوبة لتماسك المجتمع وتبلور هوية قومية حقيقية، تتجسد بصورة أكثر صلابة بكثير فى ظل المجتمع التعددى... لماذا؟ لأن المبادئ والأفكار التى يتلقاها المرء فى ظل المجتمع الشمولى المغلق- التى يتلقنها ويحفظها من خلال التعليم والإعلام الرسمى- قد تبدو له عظيمة وبراقة فى البداية، لأنها عادة ما تلبس عباءة المثالية، ولأنه لا يعرف غيرها.. لكن، مع الوقت، عادة ما يكتشف، من خلال التجربة العملية وفطرة البديهة، أن تلك الشعارات الجذابة ما هى إلا أداة للسيطرة، وأن النخب المسيطرة نفسها فقدت الولاء لها، فتستخدمها فقط للتعبئة، وللإلهاء عن فشلها وتسلطها. هكذا يتشرذم المجتمع، فيفقد مقومات الوحدة والتماسك، رغم الشعارات الزاعقة السائدة المنادية بهما. ولأن الدول المدنية الحديثة لا تعمل عامة على فرض الدرس القومى وغرس الوطنية بنفس الوضوح التلقينى الذى تتبناه الأنظمة الشمولية، تعتبر الأخيرة عادة أنها اكتشفت فى ذلك نقطة ضعف فى الدول الديمقراطية، قد تجعل من السهل كسب الصراعات والصدامات (فعلية كانت أو معنوية) معها، لكن تجارب العصر الحديث (كالحرب العالمية الثانية أو الحرب الباردة مثلاً) تشير إلى أن هذا الاعتقاد ليس له أى أساس من الصحة، فالشعوب فى المجتمعات المفتوحة المدنية الحرة تتحد وتتكاتف فى وقت الأزمات وتستطيع أن تتغلب فى معظم الأحيان على عدوها الشمولى، لأن شعور الفرد فيها بالانتماء أقوى، لأنه نابع عن اقتناع. يبدو إذن أن السؤال الأهم بالنسبة لنا فى مصر الآن هو الآتى: هل نريد المضى قدما منغمسين فى عالم الشعارات التعبوية السطحية التى يلقنها للناس التعليم والإعلام الرسمى، رغم أن كل ما ينتج عن هذا النهج هو المزيد من التفكك؟ أم أننا نرمى للتطور نحو مجتمع تعددى، يتبنى الحوار الذى ينتج عنه اتفاق عام على المبادئ الأساسية التى يصور من خلالها الناس العالم، ولذلك يؤدى إلى الوحدة، وللانتماء الحقيقى؟