كتبت بعض المقالات التى تناولت قصة أصل وتطور الكون، كما يرويها العلم الحديث، ليس فقط لأنها تشغل مركز اهتمامى كباحث فى مجال الفيزياء الفلكية، إنما أيضا لأنى أعتقد أن المجتمع المصرى بحاجة لتوغل التفكير العلمى خلاله، وذلك على عدة مستويات سأتناولها هنا. بلدنا فى أمس حاجة لجيل جديد يجيد طرق وتقنيات العالم المعاصر. هذه مقولة مداولة لا تثير الكثير من الجدل، رغم أن معناها لا يناقش بجدية أو بالتفصيل إلا نادرًا. لماذا تحتاج مصر فعلاً ل»جيل علمى» جديد؟ الرد التقائى البديهى هو أن العالم الحديث مبنى على التكنولوجيا المتطورة التى قد تساعد على انتشالنا من حالة الفقر والخضوع التى نجد أنفسنا فيها. لكن هذا الرد أقل شئ يمكن أن يقال عنه هو أنه سطحى، أولا لأن التقنيات التكنولوجية المعاصرة مبنية على أساس التطورات التى طرأت على العلوم الطبيعية والرياضيات خلال القرون الماضية، لذلك فإن أى إتقان جاد لها يتطلب قاعدة علمية صلبة فى العلوم الأساسية أولا. والأجيال الجديدة من الأطفال والشباب تجيد استخدام التقنيات الحديثة جيدا، فقد تستخدم الحاسبات الآلية فى اللعب واللهو أو البحث على «النت» مثلا، لكن لا يشدها ذلك عادة لمحاولة فهم كيفية عمل تلك التكنولوجيا أو الأسس العلمية التى بنيت عليها، وهذا هو المطلوب إذا كان الهدف هو المساهمة فى تطور الحضارة الإنسانية، وليس فقط تلقى نتائجها المستوردة.. إن ما يحرك العقول البشرية فعلا- خصوصا الصغيرة منها- يتجسد فى الابتكارات العلمية التى تطرح «الأسئلة الكبيرة»، التى تتساءل عن طبيعة العالم الذى نعيش فيه، فى محاولة لفهمه وكشف أسراره. لذلك، من الأكثر ترجيحا بكثير أن تحرك عقل الطفل نحو الفضول العلمى لأحداث مثل إطلاق مكوك فضائى حاملا لمرصد جديد يحاول فهم نشأة وتطور الكون عن أشياء مثل ابتكار سيارة جديدة تتمتع ب»فول أوبشنز» أحسن، أو حتى ابتكار حاسب آلى جديد أسرع وذى سعة معلوماتية أكبر.. على العكس، عندما يعلم الطفل أن هذا الحاسب يمكن توصيله بالآلاف من الحاسبات الأخرى لكى توزع المهمات الحسابية عليها، فتصل قدرة المنظومة الناتجة لآلاف المليارات من عمليات الطرح والجمع فى الثانية الواحدة، ثم يتم استخدام ذلك لحل المعادلات الرياضية الناتجة عن نظريات العلوم الطبيعية المعاصرة فى سبيل سرد تاريخ الكون يتغير الحال تماما. أتكلم هنا عن تجربة شخصية طويلة، بدأت عندما كنت طفلا فى الثانية عشرة من العمر، عندما كنت أعيش بالولايات المتحدة بصحبة والدى، الذى كان يعمل حينذاك بالسفاره المصرية بواشنطن.. تزامنت هذه الفترة مع إطلاق أولى رحلات لمنظومة المكوكات الفضائية الأمريكية، وأيضا مع أول إذاعة لحلقات سلسلة «كوزموس» الشهيرة، التى كان يقدمها العالم الأمريكى الراحل «كارل ساجان»، والتى أبهرتنى لأنه لم يتناول من خلالها الاكتشافات العلمية الحديثة فحسب، وإنما كان هدفه الأساسى هو سرد دور الفكر العلمى فى تطور تصور الإنسان عن العالم الذى يحيطه، وتوضيح تداعيات القفزة الفكرية الناتجة عن المنظومة العلمية، والمتمثلة فى عملية تنظيم هذا العالم عن طريق شجاعة الأسئلة التى يتجرأ الإنسان على سؤالها وعمق الردود التى يطرحها.. والتجربة الشخصية، التى اكتسبتها أيضا من خلال الحديث مع الكثير من المبدعين فى المجالات التطبيقية التقنية للعلم فى الغرب، تشير إلى أن الكثير منهم جذبهم سحر ومنطق الإنجازات المثيرة فى العلوم الأساسية لتعلم العلوم والرياضيات قبل أن يتحولوا للعمل فى المجالات التكنولوجية. لكن ربما أهم تطور تاريخى طرأ على بعض المجتمعات مع انتشار المنطق العلمى فيها تجسد فى تداعيات عميقة وواسعة النطاق، تعدت مجال العلوم الطبيعية ذاتها، أو تطبيقات التكنولوجيا النابعة منها، بمراحل. فالفكر العلمى بشقيه المهمين، المتجسدين فى تلك الجسارة الحادة فى الفروض النظرية والانضباط الجاد فى النقد المنطقى والعملى، يشكل أداة فعالة لتحليل معطيات الواقع والربط بينها عقلانيا، فيحول تصورنا للعالم من سيل هائل من المعلومات العشوائية والخيوط الفكرية الفوضوية المتخبطة إلى نسيج منظم.. وفى هذا التحول من جور ظلمات التصور العشوائى العبثى إلى الحرية الفكرية الممزوجة بالانضباط العقلى تداعيات فكرية عميقة. فليس بالمصادفة أن عصر التنوير الأوروبى جاء مباشرة بعد عهد الثورة العلمية هناك، وأن فلاسفته المؤثرين- من فولتير ومونتسكيو وحتى كانط- كانوا، فى تمسكهم بتنظيم مجتمع الإنسان حتى يخضع للعقلانية والقانون والنقاش الحر والتعدية الفكرية والسياسية، كانوا يستشهدون دائما بالمنهج العلمى وبإنجازاته العظيمة التى نظمت الكون فى فكر الإنسان وأخضعته للقوانين- فإذا كان الكون يخضع لنظام يمكن فهمه، فليس هناك ما يبرر الحكم العشوائى الذى تفرضه علاقات القوى العبثية. فالإنسان حر لأن لديه عقلاً، ولا يمكن فرض عليه ما لا يقتنع به إلا بقوة المنطق والبيان، هو حر لأنه عقلانى ولأن فى عالمنا هذا لا شئ أو إنسان النظام فوق المساءلة العقلانية. هذا ما تيقن به فلاسفة عصر التنوير الذين تأثروا بالمنهج العلمى وأثروا بدورهم على مؤسسى الديمقراطيات الليبرالية الكبرى (بالذات فى فرنسا والولايات المتحدة). ولأن هذا المنهج العلمى ليس له وجود عندنا فى مصر تقريبا، نجد أنفسنا فى مأزق، يتمثل فى صعوبة بالغة فى تنظيم حياتنا وتطويرها أو ملاحقة العالم المعاصر أو حتى التواصل معه. وذلك على أكثر من مستوى، علمى وتكنولوجى واقتصادى، وأيضا ثقافى واجتماعى وسياسى. [email protected]