أريد فى هذا المقال استكمال الحديث عن أهمية الطريقة العلمية فى التفكير لتطور المجتمعات الإنسانية عامة، ولنا فى مصر بصفة خاصة. للطريقة العلمية، كما شرحت من قبل، شقان. شق نظرى تصورى ورياضى وشق آخر عملى وتجريبى.. الفكرة تعتمد على الفرض النظرى والنقد والتفنيد المنطقى والعملى. ولكى تنجح هذه المنظومة يجب أن تكون تداعيات النظرية، على الأقل من حيث المبدأ، قابلة للاختبار المنطقى والعملى، وهذا يتطلب بدوره بالطبع أن تكون تكهنات النظرية وتداعياتها مفصلة وواضحة ودقيقة، لكى تقبل التأكيد أو التفنيد.. هكذا تيقن الفيلسوف العلمى، كارل بوبر، بأن أى نظرية لا يمكن أن توصف بالعلمية إلا إذا كانت لها تنبؤات واضحة يمكن اختبارها دون لبس، وأن تكون الظروف العملية والظواهر الطبيعية التى يمكن من خلالها تفنيد النظرية كامنة داخل منظومة النظرية نفسها – أى أن تتنبأ النظرية العلمية ال«قوية»، على حسب تعريف «بوبر»، بظواهر جديدة وتفشل النظرية إذا لم تتحقق تنبؤاتها. من هذا المنظور إذن، ما يفرق النظرية العلمية عن الأساطير الميثولوجية هو التنبؤ الدقيق القابل للتفنيد لمحاولات فهم العالم. لذلك، فإن الأخيرة تشكل منظومة ثابتة، فتداعياتها ليست قابلة للنقد والتفنيد العملى، أما العلم فهو فى تطور مستمر لأنه قابل للاختبار فى كل مراحله، لذلك فإن العلاقات التى يفرضها بين الأشياء دائماً قابلة للتغير، ذلك على عكس الأسطورة التى تهدف بالدرجة الأولى لشرح شامل للعالم، غير قابل للتغيير، لأن الهدف الأساسى منها هو بعث الطمأنينة فى نفس الناس، عن طريق إيجاد ردود سهلة ثابتة عن الأسئلة المتعلقة بطبيعة العالم وكيفية تنظيم الظواهر فيه، مما يدعم الاسقرار والإجماع الاجتماعى بدلاً من البحث الأمين الدؤوب العملى عن الحقيقة. ميزة الطريقة العلمية إذن هى أنها عملية. لذلك، رغم أن العلم منظومة نظرية فى الأساس، فإنه قابل للتطبيق العملى والتكنولوجى. لكن دون استيعاب الجانب الفكرى النظرى التصورى، أو «الأسطورى» منها، لا أعتقد أن هناك إمكانية للمشاركة الفعالة فى مجال التطبيقات التكنولوجية.. وأعتقد أن هذه الحقيقة ليست مفهومة، ولا تؤخذ فى الاعتبار بما فيه الكفاية، عند تناول سبل تطور المجتمعات خارج الغرب، حيث تخلل الفكر العلمى الثقافة العامة، ولو ضمنياً على الأقل. وسوء الفهم هذا ليس فقط مقصوراً على نظرتنا لأنفسنا فى مصر مثلاً، إنما يمتد أيضاً لنظرة الغرب لنا، فلا يعتقد معظم المسؤولين هناك أيضاً بوجود غرض واضح لتنمية الفكر العلمى عندنا، إنما يضعون الأولوية القصوى دائماً عند النظرة لتمويل الأبحاث عندنا فى مجالات الطب والهندسة والبيئة وإدارة الأعمال إلخ، فى تمويلهم للمشاريع والمنح البحثية مثلاً. ولى فى هذا الصدد تجربة شخصية قد تكون مفيدة فى شرح ما أعنيه.. تقدمت فى سنة 1994 لمنحة دراسية من المعهد البريطانى بالقاهرة (تسمى بمنحة «شيفينينج» وتشرف عليها وزارة الخارجية البريطانية)، فى سبيل استكمال دراسة الدكتوراه بجامعة «ساسكس» بإنجلترا (حيث حصلت على الدكتوراه عام 1997). عندما دعيت للقاهرة لمقابلة رئيس المعهد وبعض المسؤولين البريطانيين الآخرين بالقاهرة كان أول سؤال لديهم يتعلق بمدى فائدة الأبحاث فى المجالات العلمية النظرية البحتة مثل الفيزياء الفلكية التى كنت ومازلت أدرسها بالنسبة لبلد مثل مصر، ولماذا يتوجب على الحكومة البريطانية دعم دراساتى التى لا فائدة عملية منها بالنسبة لبلد نام، خصوصاً أنه ليس من المرجح أننى سأعود لمصر بل سأظل فى إنجلترا أو فى الغرب بعد استكمال الدكتوراه، حسب تقديرهم؟! جاء ردى التلقائى كالآتى: منذ نحو ثلاثمائة سنة قام حاكم روسيا حينذاك «بطرس الأكبر» بمحاولة لتطوير بلاده عن طريق استيعاب التطبيقات العلمية الغربية، لكن عندما ذهب لإنجلترا لتفقد نتائج الثورة العلمية أشار له مستشاروه البريطانيون بزيارة العالم العظيم إيزاك نيوتن. تحدث بطرس مع نيوتن لعدة ساعات بمكتب الأخير بجامعة «كامبريدج»، حاول خلالها تقصى النتائج العملية المباشرة لنظريات نيوتن، لكن كان إحباط بطرس شديداً عندما أخبره نيوتن بأنه ليس معنياً بالمرة بهذه التطبيقات إنما بفهم «نظام العالم»، وأن الفضول العلمى فقط هو الذى يحركه.. لكن، لحسن الحظ، سمع بطرس نصيحة مستشاريه وعمل، عند عودته لروسيا، على تشييد منظومة تعليمية وبحثية كاملة فى العلوم الأساسية ببلاده، وجاءت النتيجة عندما أطلقت روسيا، بعد مئات السنين من هذا الحديث، «سبوتنيك» - القمر الصناعى الأول فى تاريخ البشرية - كان يتحرك ذلك القمر حسب قوانين نيوتن للحركة وللجاذبية. من الواضح إذن، قلت لممتحنىّ البريطانيين، إن هناك دائماً علاقة قوية بين العلم البحت والتطبيق التقنى، حتى إن لم تكن تلك العلاقة دائماً واضحة منذ البداية، لأن النظرية قد تسبق التطبيق أحياناً بمئات السنين، لكن التطبيق كامن فى جوهر النظرية العلمية، لأنها مصممة هكذا، مصممة لكى تكون لها تطبيقات عملية، لأنها مبنية على قابلية النقد والتفنيد العملى. أعتقد أن هذه الحجة قد أقنعت ممتحنىّ بالمعهد البريطانى (لأنى حصلت على المنحة التى عادة لا تعطى للباحثين فى العلوم الأساسية!)، مع ذلك هناك الكثيرون فى مصر ممن يتشككون فى قيمه العلوم الاساسية كأداة لتطور مجتمعنا، لأنهم ربما لا يدركون أن بين الأسطورة والشعوذة وبين العالم الحديث، المبنى على التكنولوجيا المتطورة، جسراً يسمى بالعلوم الأساسية. وأن هذا الجسر نفسه هو الذى نحتاجه للتواصل مع العالم المعاصر.