يوافق يوم الإثنين المقبل الذكرى العشرين على فتح حائط برلين وبداية تساقط الأنظمة الشمولية بشرق أوروبا، الحدث الذى كانت له تداعيات قوية فى قارات أخرى- حتى معظم دول أمريكا اللاتينية، التى تفشى فيها وباء الحكم العسكرى فى الماضى، نجدها حرة وديمقراطية اليوم.. وحتى فى أفريقيا جنوب الصحراء، نجد أن الكثير من الدول قد نجحت فى إنشاء نظم حرة نسبيا. بل إنه فى أعقاب عاصفة 1989، رأى بعض قادة التحرر الوطنى التاريخيين مثل نيريرى (فى تنزانيا) وكاوندا (فى زامبيا) أن الوقت كان قد حان للتخلى عن السلطة، وكلنا نعرف أيضا المثال الرائع الذى ضربة «مانديلا» للجميع من منبره بجنوب أفريقيا. أما المنطقة الوحيدة التى فشلت فى ركوب قطار التحرر السياسى فهى المنطقة العربية.. وكثرت التحليلات الباحثة عن الأسباب، فزعم بعض المحللين الغربيين مثلا بأن هناك تعارضاً بين الإسلام والديمقراطية الليبرالية كما هى معروفة فى الغرب. لكن ذلك لا يشرح حالات دول إسلامية غير عربية - من تركيا وبنجلاديش حتى إندونيسيا وماليزيا- نجحت فى إقامة أنظمة تعددية حرة، تشبة نظيرتها فى الديمقراطيات الليبرالية العريقة. والدول الإسلامية التى استطاعت بناء أنظمة سياسية حرة هى نفسها التى تفوقت اقتصاديا واجتماعيا، فرغم مشاكل بنجلاديش الكثيرة، فإنها فى حالة أحسن بشكل عام من أختها باكستان، المنغمسة فى وحل الصراعات الطائفية، حتى وصل الحال إلى أن فقدت سيطرتها على إقليم يسمى ب«وزيريستان» بالكامل، وذلك لصالح ميليشيات طالبان. ليس الإسلام نفسه هو الذى يتعارض مع الديمقراطية الليبرالية، إنما ما يتعارض فعلا مع المبادئ المؤسسة للحرية، هو التفسير الصراعى للإسلام، المبتدع فى إطار خطابى قومى. هذا هو ما حدث فى باكستان، حيث استخدم قادة البلاد من العسكر الإسلام كأداة خطابية تعبوية فى إطار الصراع العسكرى مع الجار فى الهند، والصراع الثقافى مع الآخر فى الغرب. هذا المناخ المشحون هو الذى أفشل كل محاولات التحول نحو الحرية فى باكستان.. ونفس الشىء يحدث الآن فى إيران، ففى حين تظاهر العديد من الشبان والفتيات هناك خلال الأيام الماضية، لإحياء ذكرى ضحايا قمع الصيف الماضى والمطالبة بالحرية، حشد النظام مؤيديه ليقوموا بحرق أعلام الولاياتالمتحدة فى مظاهرات مضادة.. وكان الولاياتالمتحدة هى التى ذبحت العشرات فى شوارع طهران، وعذبت عدداً إضافياً لا يحصى فى السجون بعد محاكمات صورية، وبعد أن سلبت أصواتهم وكتمتها فى صندوق الاقتراع.. لكن، ماذا نقول، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة! ومصر لم تخض معركة فعلية منذ 36 عاما، لكننا نجد الخطاب العام مشحونا بلغة تعبوية صراعية، ونجد الدين يستخدم باستمرار فى سبيل تكريس هذا الجو التعبوى المشحون، الذى لا يجد له منفذاً أو مخرجاً فعلياً غير تأليه حركات «مقاومة» أصولية رافضة للديمقراطية والحرية السياسية والتعددية فى الخارج. هل من المستحيل الدفاع عن مصالحنا خارج إطار تلك الرؤية الفكرية والأيديولوجية المتحجرة العقيمة؟ على العكس، فتجارب التاريخ، فى العصور الحديثة على الأقل، تشير إلى أن المجتمعات التعددية الحرة هى التى تنتصر فى النهاية، فى السلم وفى الحرب أيضا. لكن الديمقراطية من الصعب أن تصعد فى تلك الأجواء الخانقة، بل يبدو أنها تخاف الظهور فيها من الأساس.. وأعتقد أن النظام المصرى يشجع المزايدة المتبادلة بينه وبين التيار القومى الدينى، لأنه يعرف ذلك جيدا. وهناك مثال مهم من أوروبا الشرقية يشير إلى خطورة تلك الأوضاع، وهو النموذج اليوغسلافى. فى إطار نظام «تيتو» كان هناك تيار قوى، مكون من الأكاديميين والمثقفين الصرب، يتبنى خطاباً قومياً زاعقاً، مستنداً لروح التراث الدينى السلافى الأورتودوكسى، رافضاً للآخر الداخلى (من الكروات والمسلمين... الخ)، والخارجى الممثل فى الغرب. ولم يتردد هذا التيار لحظة فى المبالغة فى نبرة خطابه الزاعق، لأنه تعود ألا يأخذه أحد فى السلطة مأخذ الجد (رغم انتفاع السلطة غير المباشر من مزايداته)، ناهيك عن أن ينفذ أطروحاته، لذلك اتسم خطابه بقدر كبير من عدم المسؤولية. لكن عندما مات تيتو وجاء ميلوسيفيتش (بطريقة شبه ديمقراطية)، تم تطبيق بعض أفكار ذلك التيار، فبدأت المأساة اليوغسلافية. أعتقد أن هناك خطراً حقيقياً فى مصر من حدوث شىء مماثل. فكيف نتفادى مصير يوغوسلافيا، ونتبع نموذج المجر أو بولندا؟ فى سياق ما سردناه يتضح الآتى: أولا أنه من الصعب إتمام تحول ديمقراطى فى إطار سيطرة الخطاب القومى الدينى الزاعق السائد حاليا عندنا. ثانيا، فى مثل هذه الظروف، فإن ذلك التحول، إذا حدث فجأة لأسباب غير منظورة، يحمل معه أخطاراً جسيمة، تتجسد فى إمكانية صعود تيارات اعتادت على المزايدة الخطابية فى ظل أوضاع منغلقة، وتفتقد البرنامج العملى لتولى الحكم وضمان الاستقرار والحرية. لذلك، أعتقد أن على الفئات التى قد تتضرر من الأوضاع الفوضوية الخانقة التى ستنتج أن تبحث عن طرق لتغير المناخ المؤدى لها. وهناك فئتان بالأخص قد يكون تضررهما من حدوث الفوضى والانغلاق أكثر بكثير من قطاعات المجتمع الأخرى، وتتكون من المثقفين الأحرار ورجال الأعمال المنتجين المتصلين بالعالم. وأعتقد أن هناك فرصة لاتحاد وتضامن هذه الفئات، فى سبيل بناء تصور جديد لمستقبل أكثر انفتاحا وتحررا من النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية معا.. وللحديث بقية.