تأتى مناسبة أعياد الميلاد هذا العام فى ظل ظروف ربما تكون غير مسبوقة فى تاريخ مصر الحديث، نظرا للتوتر الملموس فى العلاقات بين ما كان يسمى بعنصرى الأمة.. أعتقد أنه لا مفر من الاعتراف بذلك، فحتى الحديث عن مسألة ظهور العذراء من عدمه يبدو كافيا الآن لأن يؤدى لحالة توتر اجتماعى، كما اتضح لى من خلال أكثر من حديث مع سكان الأحياء الشعبية المختلطة. فمجرد إعلان بعض الجهات المسيحية عن ظهور ستنا مريم شكل سببا كافيا لتفوهات تمتلئ بالازدراء من قبل بعض المسلمين تجاه معتقدات مواطنيهم المسيحيين.. حتى الانتقادات، التى بدت موضوعية فى مجملها، من قبل بعض العلمانيين، كانت كافية لإثارة غضب الكثير من المسيحيين. فما هذا الذى حدث بالضبط للنسيج المصرى القومى؟ ما الذى حدث لشعار الهلال والصليب الذى رفعه هذا الشعب فى سنة 1919 والذى أدى، بعد بضع سنوات، لاستقلال مصر الرسمى سنة 1923؟ لهذه المسألة تاريخ طويل. ولأنى لا أدعى الخبرة بتاريخ مصر الحديث، فلأبدأ بأول ظهور «مشهور» للسيدة العذراء فى مصر. حدث ذلك فى أعقاب أكبر هزيمة فى تاريخ مصر الحديثة، وليس من الصعب لأى شخص اطلع على وقائع حادثة الظهور تلك اكتشاف أنها كانت إلى حد كبير منظمة من قبل النظام.. فكان الرئيس جمال عبدالناصر نفسه على رأس الذين قالوا إنهم شاهدوا الظاهرة، التى ربما كانت فى نظره دليلا على أن مصر «محروسة» فعلا، رغم فشل نظامه الذريع. وفى الوقت نفسه يمكن ملاحظة أن عبدالناصر ونظامه هما اللذان دمرا الدولة المدنية التعددية الحديثة فى مصر. فنظامه ال«ثورى»، رغم احتضانه للعذراء «فى وقت الزنقه» لم يلغ القوانين، القائمة منذ عصر الاحتلال العثمانى (على حد علمى) التى تجعل من الصعب بناء أو حتى إصلاح الكنائس مثلا. ثم ألم يكن عبدالناصر ورفاقه هم الذين طردوا أو «طفشوا» جاليات المدن المصرية، التى كان أغلبها من المسيحيين، والذى كان وجودها ونمط حياتها يشكل عامل توازن اجتماعياً، يقابل التقاليد المتصلبة الشائعة فى الريف المصرى، الموروثة والمتبلورة على مدى آلاف السنين فى سياق محافظ وراكد ورافض للتعددية؟ أليس نظام 52 هو الذى همش وسجن وهجر معظم مفكرى وعلماء العصر الليبرالى أيضا، مما أدى إلى خنق النهضة الفكرية التحررية المصرية- وليدة النصف الأول من القرن العشرين؟ (فأين أمثال طه حسين ولويس عوض ومحفوظ الآن؟). ثم أليس خليفة عبدالناصر (السادات) هو الذى لعب لعبة ضرب الحرس القديم- المحافظ أصلا فى مجمله رغم ارتدائه عباءات اشتراكية وتقدمية سطحية- بالتيار الإسلامى الأوصولى، فعجل المشوار نحو الكارثة؟ وماذا عن العهد الحالى، إلا المزيد من تكريس تلك الروح المحافظة وتداعياتها من ظواهر التدين السطحى: فالمدن الجديدة، التى شيدت فى هذا العهد، بعيدة كل البعد عن روح إحياء مصر الليبرالية (كوسط البلد والزمالك)، فالأحياء الراقية الجديدة، التى تبدو براقة فى انغلاقها وعزلتها، تتسم بالتمدن الصورى المزيف، الذى يصاحبه تدين من نفس النوعية.. حتى على المستوى السلوكى السطحى نلاحظ ازدواجية مخيفة فى المعايير، فليس فى هذه المجتمعات أى «بارات» مثلا، مع أن الكثير من بين سكانها من شاربى الخمر- لكن فقط فى الخباء- فهم يسكنون مجتمعات كتومة مزدوجة السلوك، الصورة فيها لا تشبه الجوهر، مجتمعات تعكس الطريقة التى حصل بها معظمهم على المال، مجتمعات مزيفة فى مجملها، تفوح منها روح عدم الجدية أو العمق، أو أى فكر جاد- فالنجاح (فى أغلب الأحيان) على هذا المستوى لا يعتمد عادة على الابتكار أو السببية المنطقية، إنما على ال«سبوبة». ما هى تداعيات هذا الوضع؟ فى السنة الأخيرة فقط، وجدنا حملات حكومية «شعبوية» مخيفة لتكريس صورتها التقية سطحيا: من أول مذبحة الخنازير، التى من الواضح الآن أنها لم تسفر عن أى شىء فى مواجهة الأنفلونزا التى قالوا لنا إنها مميتة، حتى معاقبة مفطرى رمضان. أنا كشخص يحب أن يرى نفسه كرجل علمانى عقلانى، لا يمكن أن يعتقد فى ظواهر مثل ظهور العذراء، لأنها لا يبدو أنها تخضع لقوانين سببية، أرى أن فى الوقت نفسه أن هذا المنهج نفسه يحتم احترام معتقدات الآخر.. لكن هل هذا منطق نظامنا السياسى خلال أكثر من نصف قرن؟ على العكس، فهو كرس قيم العشوائية فى التفكير عن طريق استبدادية الحكم، الذى أداره الفرد بأهوائه وقراراته، التى عادة لم تستند لتبرير منطقى مقنع أو أى أدلة عملية ملموسة، واستبدلت الشفافية بالكتمان، واستخدمت هالة من ال«ميثولوجيا» الغامضة والتقوى المزيفة لتبرير قراراتها التى طالما انهالت على الناس كالصاعقة. فلماذا إذن نطالب الناس، بالذات الفقراء والمنتمين للأقليات منهم، بالتمثل للعقل حينما العالم الواقعى كله فى مصر يشير لتركيبة مختلفة، خانقة وخافية.. تتسم، من أعلى إلى أسفل، بمنطق الغموض والكتمان والقوة والشعوذة؟ وإذا كانت هزيمة 1967 هى التى أدت لظهور العذراء حينذاك، فما هى منابع الهزيمة اليوم؟ أترك الإجابة للقارئ. [email protected]