لم أتخيل وأنا في طريقي لمقابلة الأسير أيمن الشوا - من الأسرى المحررين في صفقة الجندي شاليط - أن يستقبلنا بهذه الروح المتفائلة.. نعم سنوات السجن تحفر ملامحها على وجهه، لكن البشاشة ومعنوياته العالية غطت على تجاعيد الزمن. وبدأ الحوار: ليقول أيمن -المحكوم عليه بخمسة مؤبدات-: "في البداية لم أهتم كثيرا بالإعلان عن وجود صفقة الأسرى الفلسطينيين، وظننته محض إشاعة كالمعتاد حيث تكررت عدة مرات، ولكن ما أن بدأ إعلان أسماء الأسرى الذين ستشملهم الصفقة، واسمي من بينهم لم أتمالك أعصابي، كان الإفراج عندي بمثابة فرصة نادرة لإنسان معدوم لا يرى الضوء، ولا يسمع أحبابه وزوجته وبناته ومعزول عن الحياة والدنيا بأكملها ولا يرى إلا أشخاصا محدودين طوال 19 سنة، وفجأة يعرف أنه سيطلق سراحه فإن فرحته لا تضاهى، سجدت لله شكرا.. ولا يفي سجودي شكر هذه النعمة، ومن شدة فرحي قفزت مثل الأطفال وصرخت وهللت وسجدت مرة أخرى، وشكرت الله عز وجل الذي اخرجنى من العتمة إلى النور.. فرحتي لا توصف، فقد عجزت كل المعاجم والقواميس عن التعبير عنها.. إنها نعمة التحرر أخيرا من السجان الصهيوني ومن جدران السجن وسجانيه". ويضيف استقبلتني عائلتي بسلال الورد، وقطع الحلوى تتلقفها الأيدي، وكما كانت فرقة "فدعوس" بانتظاري وكأنني عريس يزف إلى عروسه، أما النساء فأطلقن العنان لزغاريدهن ومواويل الفرح (آويها أعتابنا رحبت قبل ما دق الباب، آويها والقلب سلم عليك قبل ما يشوف الأحباب، لولولولولولييي".. أما بناتي فقد جهّزن لي "بدلةً" أنيقة لكي أخرج إلى ضيوفي بأبهى حلة، أما زوجتي فقد جهّزت لي طعامي المفضّل. ويسترجع الأسير المُحرر أيمن الشوا كيف تم اعتقاله فى سن 27 عاماً فى 9 مارس 1993، بتهمة انتمائه لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وكتائب عز الدين القسام وحيازته أسلحة في منزله، وحكمت عليه محكمة الاحتلال الظالمة التى لا تعرف ميزان العدل بخمسة مؤبدات وخمسين سنةً أخرى. يقول: كانت يومها عقارب الساعة تشير إلى الثالثة فجراً، حيث اقتحمت منزلي قواتٌ إسرائيلية وألقت القبض عليّ دون أن يدري أحد سبباً لذلك"، فلا أحد من أفراد عائلتي كان يعرف أنني أنتمي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أو أنني مسؤول كتائب القسام في حي التفاح والدرج. يتطلع إلى الأفق فى شرود ثم يضيف: طبعا اليهود الصهاينة يحاولون إظهار الصورة الحسنة لهم أمام العالم لكن الحقيقة غير ذلك، لقد حرمونا من التعليم ومن اقتناء الكتب ومن زيارة الأهل ومن "الكانتين" التي لا تحتوي إلا على بعض الأغراض الأساسية، حتى في أوقات كثيرة لا يسمح بشراء ما نحتاجه. وأي مطلب صغير يعد من أبسط الحقوق الإنسانية حتى يناله الأسير كان يفترض عليه أن يخوض إضراباً طويلاً ليتحقق له، وأكثر الانتهاكات التي مورست وما زالت تمارس بحق الأسرى داخل السجون هي تلك المتعلقة بالتفتيش العاري، وتفتيش الكبسية في منتصف الليل ودون سابق إنذار، إذ يقيم المفتشون السجن ولا يقعدونه، إضافة إلى ضرب الأسرى في تلك اللحظات ورشهم بالغاز، وأيضا سوء الرعاية الصحية. وتلمع عيناه وهو يقول: لا ثمن يضاهى الحرية في العالم كله، وهى منة من الله عز وجل منحنا إياها وبفضل الله ومن ثم إخواننا في "عز الدين القسام" والعاملين على تبادل الأسرى أشكر من عميق قلبي كل من ساهم في إتمامها، فهي صفقة مشرفة وترفع الرأس فلا شىء يساوى أن إنسانا محكوما عليه مدى الحياة يفقد القدرة على المشي فجأة يجد نفسه يمشي على الأرض لا أصدق والله نفسي.. فعلا لا أصدق. لقد تركت ابنتي أفنان وعمرها لا يتجاوز ثلاث سنوات، ورجعت الآن لأجد معها ابنة في عمرها يوم تركتها، أما ابنتي الصغرى "أشواق" فلم أعرفها فى البداية. ولم أجد من أصدقائى إلا واحدا فقط؛ فهنالك من سافر ومن توفى ومن استشهد.. أكثر من 19 عاما تغيرت فيها الدنيا. فجأة يهتف: تحيا مصر، ويكمل: مصر هي فعلا أم الدنيا وهى الرئة لغزة بل لفلسطين كلها ونحن نستمد قوتنا من الشعب والحكومة والثورة المصرية، إننا نشكرهم جميعا وكل القائمين الذين أتموا الصفقة "وفاء الأحرار" شاكراً الأيدي الطاهرة التي ساهمت في خروجه وخروج جميع الأسرى من غيابات السجون الإسرائيلية.. نتمنى لمصر وشعبها الاستقرار والأمان. وعن عملية إنهاء الانقسام الداخلي وإتمام المصالحة يقول الشوا: أناشد كل أسير فلسطيني تحرر من الأسر أن يعمل جاهدا على إتمام اللحمة الفلسطينية وجمع الصف وترتيب البيت الداخلي، ونأمل أن يكون لنا دور فنحن الأسرى المحررين أصدرنا وثيقة لنا في السابق تطالب بالمصالحة، وإن شاء الله سيكون هنالك وثيقة أخرى تتحدث عن جمع الفصائل وتوحيدها.. وسنعمل كل جهد وفى خندق واحد، وسيتم قريباً خلال شهر ترتيب الأمور كلها وعقد لقاءات وجولات مع الإخوة بفتح وكذلك حماس. انتهى الحوار مع الأسير المحرر أيمن الشوا الذي أمضى 19 سنة في سجون العدو، والذي يمتزج داخله الفرح والحزن.. ويعبر عنهما بقوله: أكثر شيء يفرحنى طبعا حريتي وخروجي من السجن فأخيرا ذقت طمع الحرية.. وأما المواقف المحزنة فهي كثيرة أهمها حينما تزوجت ابنتاي الوحيدتين وأنا بعيد عنهما كنت أتمنى أن أقدمهما لزوجيهما، والثاني وفاة أبى المريض الذي لم أره منذ 15 سنة "كم تمنيت أن أقبله وأودعه قبل دفنه"، وحتى إن إدارة السجن رفضت طلباً قدمته للاتصال بأهلي هاتفياً، مطالبين بتقديم إثبات أن والدي توفي". كما أن ذاكرتي تحتفظ بزملائي العشرة، الذين كانوا في غرفة واحدة، وقد خرجنا وبقى ستة كنا أسرة واحدة لقد أمضيت عاما واحدا في سجن عسقلان و18 في نفحة، حينما تركت السجن وودعت زملائي الباقين هناك.. كان أمرا مؤلما جدا وكان البكاء شديدا.. وبكاء الرجال فيه من القهر والحزن ما يصعب وصفه.