تطرق عارضة الأزياء الصومالية الشهيرة "ويريس دايريه" في روايتها " فجر الصحراء" باباً غامضاً وملتبساً من أبواب الحكاية، تماماً كالبلد التي أنجبتها، بتناقضاته وأحزانه ومجاعاته التي لا تنتهي. تعرف ويريس أن قارئها يجهل هذا البلد بالذات، فقد كانت "فجر الصحراء" أول كتاب اقرأه لكاتب من الصومال، وأول عمل مكتمل يحمل صورة إنسانية للبلد الذي تمزقه حروب القبائل، ويطحنه الجوع. وللجوع قصة طويلة في مذكرات هذه الكاتبة، التي حققت بكتابتها رأياً عاماَ دولياً لصالح المواطن الصومالي، بسبب ما تتمتع به من حس إنساني جذاب، جعلها وهي تتذكر بلادها تعتقد أن ملحاً كثيراً يجري في دموع أهلها. جروح الصبا ها هي الفتاة الفقيرة تهرب من أبيها في الصحراء لتذهب إلى لندن ونيويورك وتصبح واحدة من أهم عارضات الأزياء في العالم، وواحدة من المكافحات دولياً ضد الختان الفرعوني للبنات، وتصير كاتبة تحقق كتبها نسباً هائلة في التوزيع، دون أن تنسى شمس خط الاستواء اللاهبة، تحكي بدرجة عالية من الحرفية عن الصومال وقد روت الرواية شفاهةً على "جين دهايم" كاتبة القصة المعروفة بقربها من الثقافة الصومالية. يعني اسم "ويريس" الزهرة المتفتحة في الصحراء، وهو صفة للكاتبة على مدار حياتها التي قاربت الأربعين الآن، تقول: "ولدتُ في الصحراء الصومالية، لا أعرف كم طفلاً كان لأمي، ولد الكثير منهم لكي يموتوا". والكتاب يبدأ من لحظة اختيارها العودة بعد عشرين عاماً إلى بلدها، بعدما هربت من أهلها خلال الحرب، فرت مع عمها إلى لندن لتعمل خادمة، وهناك ابتسمت لها الحياة وتحولت إلى عارضة أزياء مشهورة، تتزوج وتنجب طفلاً ظلت تحلم به دائماً، لكنها تتركه لتعود إلى حضن أمها، في هذا البلد الذي تركته ممزقاً في الحروب وعادت لتجده لا يزال غارقاً في المجاعة. ويريس كانت مثل ملايين الأطفال من البدو ترعى عنزاتها قرب المكان الذي تُخيِّم فيه الأسرة، كان عليها في الفصل الجاف أن تبحث عن العشب ولا يمكنها أن تبعد عينيها عن القطيع، فالحيوانات المفترسة تكمن خلف كل غُصن، تجلس في الظل أثناء فترة القيلولة، تُدندن أغنيات لنفسها وتلهو بالدمى التي كانت تصنعها من العيدان، تلعب مستخدمة الصخور الصغيرة، تبني منزلاً كبيراً من الرمل. في المساء في طريق عودتها إلى موقع المخيم كانت تلمح العيون الصفر الماكرة لقطيع من الضباع ترقبها هي وعنزاتها، تقول: ارتعدتُ لأن الضباع لئيمة وذكية، وإن لم تكن منتبهاً لحراسة نفسك فسوف تدخل بينك وبين إحدى عنزاتك، يجب أن تجعل من نفسك كبيراً وواعياً وشجاعاً فلا تشعر الضباع أنَّك خائف. تحكي عن الصخور المدببة التي كانت دائماً تدمي قدميها الحافيتين في الصِّغر، حين كان الصوماليون شعباً من الحفاة، تحكي عن الحذاء كأنها تناجيه، حين وصلت إلى القرية حيث يُظن أن أمها تعيش كان حذاء واحد في البيت الذي يضم أكثر من عشرة أفراد، يتبادلونه مثل سيارة مستعملة، وبدت كأنها تبكي لأنها من بلاد محرومة إلى هذا الحد. حياة مختَنة أغلب الظَّن أن الكاتبة أرادت أن تبهر العالم الغربي بما لدينا في الشرق من أساطير، تبدو بالنسب لحالة الصومال بكراً جداً، بدا ذلك واضحاً وهي تتحدث عن الشياطين البيضاء التي لا تظهر إلا في الصومال "كأنَّهم يتسللون داخل الحيوانات والبشر ويجعلونهم مرضى، يُمكن أن يقوموا بالخداع وأن يجعلوك مجنوناً"، تحدثت عن معتقدات أمها، التي ابتسمت حين رأت ابنتها عائدة بعد عشرين عاماً وقالت : "عرفت أنك ستأتين، منذ يومين رأيتُ حلماً عن أختك، كانت تحضِّر الماء، وتغني وصوتها يعلو ثم يعلو أكثر فأكثر، علمت أن إحدى بناتي قادمة من بعيد! " في حياتها الشخصية لا تمثل الكاتبة المرأة الصومالية تمثيلاً أميناً، ليست امرأة صومالية بالمعنى الدقيق، متمردة حتى النخاع وقادرة على التحدي، ففي العرف الصومالي عندما يعود الزوج من رحلته لابد أن تقف المرأة فوق مبخرة وتعبق ملابسها وشعرها برائحة البخور، وويريس لا تستطيع أن تفعل ذلك، تفكر في طريقة لإقناع أمها بجدوى إنجاب الأبناء بلا زواج، تتأفف كثيراً من الحجاب الذي تفتخر به الصوماليات، لكنها تحكي عن المرأة التي "تؤمن بالله في كل قطرة دم في مكونات جسدها ولا تستطيع أن تتنفس أو تفعل شيئا من دون الله، لا يمكنها أن تزن القمح أو تحلب الماعز دون شكر الله، هذا ما تعلمته منها كي أعيش، وهذا ما كنت أحبه فيها، أمي.." الختان الفرعوني جاء عموداً فقرياً في حبكة الرواية، مثلما هو في حياة ويريس نفسها، التي بدت كأنها "حياة مختنة"، فقد نذرت حياتها لتعريف الأمهات بمخاطره ومضاعفاته النفسية والجنسية، وكثيراً ما تألمت لوفاة حليمة أختها متأثرةً بنزيف ما بعد الختان، وقد عرضت الصالات السينمائية خلال العام 2010 وفي عدة عواصم غربية فيلم"Desert Flower")زهرة الصحراء) والمأخوذ عن كتابها "صحرائي" والذي حقق أفضل المبيعات وقت صدوره قبل أعوام، ويحكي كيف جرى ختانها، والمشاكل الصحية التي واجهتها جراء هذا الختان، ومحاولة تزويجها وهي لم تبلغ الرابعة عشر من رجل عجوز، وهروبها بعد ذلك في رحلة ضياع طويلة إلى لندن، حيث يتم اكتشاف جمالها عن طريق إحدى دور الأزياء، وتدخل عالم الموضة والمكياج، وتتحول إلى واحدة من أشهر العارضات في العالم. " فجر الصحراء" تُعتبر سؤالاً مفتوحاً في أدب السيرة الذاتية، فصاحبتها لا تكتب بيديها، بل تروي لكاتبة محترفة، تكتب ما تحكيه شفاهة، ما يجعل الكتاب يأخذ اسماً إضافياً إلى جوار اسم المؤلف، ويأخذ إيقاعا أنثروبولوجياً، وهي فوق ذلك لا تكتبه بلغتها الأصلية، بل بالانجليزية مباشرة، أي أنه يخاطب منذ الوهلة الأولى القارئ الغربي، ويضعه في الترتيب الأول من سلم أولوياته، عازفاً على إيقاع الجوع الإنساني الذي يعيشه الصومال الآن، وجوع العالم إلى معرفة المزيد عنهم، هؤلاء الجوعى الذين ينساهم العالم دائماً، ويكون بحاجة إلى أن يرى هياكلهم العظمية الهزيلة على الشاشات، لكي يتذكرهم ويرمي إليهم قطعة خبز، وهم يموتون.