هجر الجمهور المسرح، لأن المسرح هجر جمهوره، وبخطط منظمة تم تغييب فن الجماهير عن مجتمعه، وإبعاد قضاياه الحقيقية عن فضائه، وإسكان شبح التجريب والتغريب في أروقته، بحجة كونه فنا خالصا لذاته، محروما من الرسالة المتهمة بالإيديولوجية، ومنزها عن الهدف، لأن قيمته في «بنائه» الداخلي، باسم أدبية الأدب، وفنية الفن، ولم يعد المسرح بالتالي يعرف طريقه نحو جمهوره في أماكن تواجده، ولم يعد الجمهور يعرف دور العرض المسرحي التي بدأت تتآكل وتتلاشي، وصارت العروض المسرحية الغارق بعضها في صياغات جمالية مفرغة المعني، أو الصاخبة بدعائية جوفاء، مقدمة في ليلتين أو ثلاث علي الأكثر أسبوعيا، ولجمهور الأصدقاء والموظفين، وبتذاكر يدفع ثمنها صناع العرض أنفسهم، كي يسددوا بها «كوتة» العرض المتعاقدين عليه. ومع ذلك فليس غريبا أن يعاود المسرح القومي جذب الجمهور إلي عرضه الجديد والجاد، وفي مسرح «ميامي» المختبئ وسط ركام شارع «طلعت حرب»، والمتاخم لملهي ليلي، لا يفرق المار بالشارع أيهما المسرح وأيهما الكباريه، فكاتب النص هو "لينين الرملي" المخضرم في التعامل مع المسرح «الجماهيري» الجاد، ومخرج العرض هو "عصام السيد" الذي قدم من قبل سبعة نصوص من أعمال "الرملي"، والممتلك لأدوات جذب الجمهور وتوريطه بأناقة الصورة وبساطة الحركة ونثر الأغاني والأفيهات واللعب علي أوتار الحكايات المثيرة لمتابعة العرض وتقبل الموضوع الجاد دون تعال عليه، ودون التماحك بغرائب المصطلحات من قبيل المسرحة والدراماتورجية والتشظي وما بعد الحداثة، بل وعيا بطبيعة الجمهور القادم من شارع مزدحم بالمشاكل، ومن تعليم مترد، ومن ثقافة مرتبكة ومدانة، ومن مستقبل ضبابي. كعادة كبار الكتّاب تتعدد مستويات التلقي والتفسير لأعمالهم الجادة، وكعادة أعمال "لينين الرملي" تتمازج دلالات كثيرة داخل أعماله، وتتماس مع أعمال كثيرة روائية ومسرحية وسينمائية أخري، ولذا يستدعي عرض «في بيتنا شبح» منذ العنوان رواية "إحسان عبد القدوس" وفيلم "هنري بركات" عنها «في بيتنا رجل»، وبنيتهما الدرامية القائمة علي وجود مكان محدد يعيش سكانه حياة هادئة حتي يقتحمه شخص مغاير لهم يغير من سلوك شخصياته، وهو الموضوع ذاته الذي استخدمه من"الرملي" من قبل في فيلم «الإرهابي» مع المخرج "ندار جلال"، في معارضة للرواية الإحسانية، حيث يؤثر البيت المستنير في الوافد المتعصب، وفي عرضنا الحالي نجد ذات البنية المعروفة بيتا عاش في الهدوء الظاهري لسنوات طوال، حتي مات صاحبه فتركه للورثة يستثمرونه معا، وينفجر الحدث الدرامي بموت المالك، وتنفتح أبواب البيت بوصول الورثة باختلاف مشاربهم إليه، ويتحرك الحدث وفقا لموقف كل وريث وتصادمه مع الآخر في مواجهة ما يطرأ أمامهم داخل البيت الواحد. البيت الأسطوري يصمم "حازم شبل" سينوجرافيا العرض، ببهو قصر ينتسب بطراز معماره للتاريخ، الذي تشير كلمات النص إليه صراحة، وإن لم يوح بنظافة ونصاعة ألوانه بقدم القصر وبإهماله لسنوات من صاحبه، تتعدد مداخل البهو ومخارجه، ويتوسط عمقه سلم صاعد لأعلي حيث توجد «ثلاثة» أدوار مليئة - كما يقال - بحجرات معيشة سيتوزع عليها الورثة باختياراتهم وفقا لمستواهم الاجتماعي، وبها حجرة كبيرة تحتلها مكتبة ضخمة ستشغل حيزا من العرض، وحجرة أخري مغلقة بأعلي برج البيت تحمل رقم «40»، ستشغل بدورها حيزا آخر من العرض، كما ستستدعي لعشاق الحكايات الأسطورية فكرة الغرفة المحذور فتحها لأبطال هذه الحكايات، ولا تفتح إلا بإرادتهم المغامرة، ولوسط هذا البيت المثير يدخل سبعة من ورثة مالكه، جاءوا جميعا بناء علي دعوة محاميه لإستلام ميراثهم منه، ليجدوه بدد كل ثروته، فيما عدا هذا البيت الذي عليهم جميعا استثماره معا، وبشرط أن يسري الحب فيما بينهم، وهي الدعوة الخفية وراء إصرار المالك علي تجميعهم واشتراطه عدم التفريط في البيت الذي ورثوه، وهو الأمر الصعب بين شخصيات لا تعرف بعضها بعضا، وتختلف فيما بينها اجتماعيا واقتصاديا، وتتباين مواقفها ومصالحها تجاه البيت والمال والحياة، وتحمل أسمائها أهم صفاتها أو نقيضها، كعادة مسرح "الرملي"، فنجد رجل الأعمال «الفاسد» "عز"، والموظف القديم العائش في الخرافات "درويش" والممثل لزوجته السلبية "محاسن"، والشاب "منصور" العاطل المتمسك بعقلانيته وحلمه في تأسيس بيت بسيط قائم علي الحب، ومقابل هذه الأسماء نجد نقائضها الصحفي متذبذب الرأي "حازم"، وأخوه الذي يعاني مرضاً هيستيرياً "فخر"، والمحاسب غير المتحقق "موفق"، والشابة "أمل" التي لا تفعل شيئا طوال الحدث غير التعلق بمن وقعت في غرامه من أول نظرة "منصور"، متوازية مع الزوجة السلبية في تقديم نمط المرأة التي يراها العرض قد صارت في مجتمعنا مجرد زوجة خانعة وحبيبة مراهقة دون أي فاعلية منها، فيتحدد وجودها داخل المسرحية كتابعة للرجل، ويغيب معها «الأمل» في فاعلية المرأة . بالمفارقة الدرامية التي أسس "الرملي" عليها مسرحيته، حيث يستدعي رجل القانون «المحامي» شرائح من المجتمع إلي بيت لا يعيشون فيه، في محافظة مرسي مطروح، تبدأ داخله في مواجهة ذاتها وواقعها بتخيل الفتي الهيستيري "فخر" ظهور شبح له، مستدعيا فكرته مما ترسب في لاوعيه من حكايات المجتمع المتخلفة، وبنسج عاشق الخرافات "درويش" لشخصية هذا الشبح وجودا مرئيا، وتبدأ الغالبية في الاقتناع ب «حقيقة» وجوده، فعقليتها قد صيغت في العقود الأخيرة بصورة تجعلها تميل للخرافة ويهتز في لحظة عقل الفتي "منصور" المؤمن بالعلم، تحت ضغط المحيطين معه داخل هذا المجتمع الصغير، ثم يندفعون جميعا نحو اختلاق فكرة وجود «كنز» مخبأ بالضرورة بالغرفة المغلقة بهذا البيت القديم، رفضا منهم لفكرة أن المالك قد بدد في الماضي كل ثروته، وطمعا في المال الذي سيغير حياتهم في الحاضر، وبحثا عما هو مادي، بعد اكتشافهم لمكتبة ضخمة، لم يروا فيها سوي مجموعة من الكتب غير المجدية لهم، وهم لا حاجة لهم بالثقافة. بوليسية أم سياسية؟ تسير وقائع المسرحية في سياق الهروب من مواجهة الواقع بالشبح «المتخيل» رعبا من المكان، والكنز «المأمول» بديلا عن العمل في الواقع، وذلك بالتداخل مع وجود إعرابي «حافي القدمين» يسعي بكل الطرق للحصول علي البيت القديم بثمن بخس، أثناء انشغال ورثته بالخرافة عنه، فيبرز أمام المتلقي المستوي الأول من تفسير المسرحية، حيث سيراها البعض مجرد حكاية مسلية علي غرار حكايات "أجاثا كريستي" البوليسية الدائرة حول شخصيات محدودة، تلتقي دون سابق معرفة في مكان مغلق، لتواجه مأزقا يوترها والمشاهدين نفسيا، حتي يصل في النهاية لحل يلغي هذا التوتر ويعيد الأمور لمسارها الأول، وإن جاء الحل في الصياغة الحالية للمسرحية بتحول الشبح الواحد «المتخيل» إلي أشباح فاعلة تحرق البيت، وتعيق عملية إطفائه من أهله، وتنقل التوتر للمتلقي بدعوة بطله في نهاية العرض للوقوف إلي جانبه في مواجهة هذه الأشباح. كما يمكن تعميق هذا التفسير البسيط للحكاية المثيرة، بنظرة سياسية تنطلق من لحظة المشاهدة الراهنة، ويسترعي انتباهها التغيرات التي طرأت علي النص المكتوب منذ نحو عشر سنوات، فتري البيت باعتباره الوطن، الذي بدد حاكمه القديم ثرواته، ولم يبق غير إعادة بناء «أصوله»، والتي تحترق بيتا إثر بيت بأيد آثمة، شبحية الوجود كاللهو الخفي، وتمنع تجمعاتها شرفاء الوطن عن حمايته من الحرائق المشتعلة، كما يتحمل أفراد هذا الوطن النصيب الأكبر في تغول هذه الأشباح، وفي ظهور الإعرابي الغريب الذي توحي المسرحية أن له دورا في اشتعال حرائق الوطن وسرقة مقتنياته، طمعا في الاستيلاء عليه، وذلك لتفرق أبناء الوطن، وتفشي الروح الفردية بينهم، واستسلام غالبيتهم للخرافات وأفكار التخلف، مما يجعل صرخة الشاب المستنير "منصور" لجمهور الصالة بضرورة مساعدته لإطفاء حريق البيت صرخة تحريضية تستقر بوعيه عقب خروجه من دار العرض 0 وأن تسلل الخلل داخل هذا التفسير الذي فرضه الواقع الراهن، حيث من الصعب تفسير المالك القديم للقصر، والمورث له عن طيب خاطر لعائلته، والطالب منهم عدم التفريط فيه، بالحاكم الذي بدد ثروة الوطن، وامتلكوا هم القصر بعد الإطاحة به، ولم يستدعيهم أحدا لتملكه والسكن فيه، بل هم يسكنون فيه، وابتعادهم عن تملكه كان ببطش المالك السابق، كما أن تحول الشبح المتخيل، لأشباح حارقة للبيت، تقود التفسير نحو شرذمة من الصبية حرقت في الواقع مباني الوطن، وتبعد الذهن عمن امتلكوا اليوم الوطن، والذين قد يفسرون «مشعلو حرائق الوطن» بالليبراليين والعلمانيين، مقابل تفسير المستنيرين لمشعلي الحرائق هؤلاء بأصحاب أفكار الردة والتخلف، فتتشتت الدلالات بين الفرقاء. آدم والجبلاوي يضفي اسم «آدم» الذي يحمله مالك هذا البيت، علي التفسيرين السابقين ظلالا أعمق، تمنح المسرحية بعدا أسطوريا، عبر نظرة كونية إنسانية، غير مقيدة بالإحالة المباشرة للواقع، تؤسس نفسها علي هدف السيد "آدم" النبيل في تجميع أفراد أسرته المتفرقين داخل البيت «التاريخي» القديم الذي أورثهم إياه، ودفعهم للعمل الجماعي لحمايته، بينما يفشلون هم لعدم تمسكهم بالعقل والعلم، وكأننا نشاهد تنويعا مسرحيا علي الفكرة الكلية لرواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، يحل فيها "آدم" محل "الجبلاوي"، ويصبح البيت التاريخي بديلا للوقف الأسطوري، والغرفة المغلقة والمتصور أن بها خريطة الكنز وجها آخر من الحجرة السرية الموجودة بها وصية "الجبلاوي"، ويرتدي "منصور" ثياب رجل العلم والعقل "عرفة"، ويحتل صدارة المشهد الأخير، بعد أن هرب الجميع، وبقيت في خلفية حضوره حبيبته "أمل"، طالبا يد المساعدة من المشاهدين قبيل احتراق البيت، وربما قبيل موته بين جدرانه، كما مات سلفه "عرفة" وزوجته "عواطف" علي يد المتخلفين في الرواية المحفوظية. بحرفية رائقة وأناقة في الأداء، يدير "عصام السيد" حركة ممثليه، ويستخدم الإضاءة والموسيقي بحذق فيجعلهما موحيين دون مبالغة، ويتيح للممثل مساحة تجسيد شخصيته وفقا لطبيعتها وعلاقتها ببقية الشخصيات، فيمتلئ فضاء المسرح بالحيوية، أعاقتها أحيانا الأغاني الدخيلة والتي يمكن حذفها دون أي مساس ببناء وفكر المسرحية، ويبرز "أشرف عبد الغفور" برزانة منضبطة ومشاركة تهريجية محسوبة تثير البسمات لرجل الأعمال الإنتهازي، والمختبئ بأعماقه طفل عابث، ويفجر "سامي مغاوري" الضحكات بتجسيده لشخصية المتعلق بقشور الدين، وبحركة جسده وإلقائه المنغم الخاص للإفهات، ويحصل "محمد رضوان" علي طريقة أداء خاصة لمدعي الثقافة المتردد، وإن خانه صوته في الولوج بها لعالم الكوميديا، وتنجح "سلوي عثمان" في منح شخصية الزوجة المقهورة بذكورية الرجل وتدينه السطحي، بأداء صوتي يكشف عن تناقض مخبرها مع مظهرها، وحسنا أن ألبستها مصممة الملابس "نعيمة عجمي" زيا أحمر اللون تحت زيها الخارجي الأسود، دلالة علي ما تحمله من رغبة حسية للحياة، وهو ما لم تستطع ان ترتفع إليه الوجه الجديد "أميرة عبد الرحمن" لا بأدائها الصوتي والجسدي ولا بملابسها، وظلت ظلا باهتا في خلفية صورة عاشقها "منصور"، والذي جسده "ماجد الكدواني" برشاقة حركته، وقوة عزيمته، وتردده في لحظات الضعف، ولم يتح النص ل"ياسر الطوبجي"، ولا تعليمات المخرج، أن يفجر طاقاته الكوميدية مع شخصية المحاسب الهامشية التي جسدها، وقدم "كمال سليمان" و"بيومي فؤاد" دوريهما في حدود ما رسم لهما، وفلت من هذا التحديد "وصال عبد العزيز" بتجسيده لشخصية المريض بالفصام، والذي يفجر بهلاوسه عن الشبح الذي يظهر له حدث المسرحية، مقدما نمط المريض بالوهم أمام العاقل المستنير، الذي ينفض عنه مجتمع تقوده الخرافة، ويكاد يحرق باللهو الخفي.