ملف يلا كورة.. وفاة أحمد رفعت.. ونصف نهائي ناري في يورو 2024    اندلاع حريق في خط أنابيب غاز بشبه جزيرة القرم    اهتمام الرئيس السيسي أكسب الحوار الوطني ثقلا مجتمعيا وسياسيا.. والهدف خدمة الشعب المصري    مدرج يورو 2024.. "هم القطط وليسوا الأسود".. وحضور رئيس تركيا    عاجل.. moed.gov.sy نتائج البكالوريا سوريا 2024 حسب الاسم ورقم الاكتتاب وزارة التربية السورية    «كان شايل جبل على كتفه».. رسالة مؤثرة من شقيق أحمد رفعت بعد وفاته    3 ناجين و2 مفقودين.. القصة الكاملة لكارثة غرق 5 لاعبين من اتحاد طنجة المغربي    بعد توليه رئاسة إيران.. من هو الإصلاحي مسعود بزشكيان وما هي صلاحياته؟    وزير التموين: الدعم يعد الملف الرئيسي ولا بد من وضع إجراءات لتنقية البيانات    محافظ كفر الشيخ يستمع لمشاكل المواطنين في جولة ليلية بشوارع العاصمة    ضياء السيد: رفعت صاحب شخصية قوية منذ صغره وكنا نستعد لعودته للملاعب وتفاجئ بانضمامه للمنتخب مع كيروش    بعد استقراره عالميا.. أسعار الذهب اليوم الأحد 7 يوليو 2024 للبيع والشراء    التعليم: 99% من نماذج إجابات امتحان الكيمياء المتداولة عبر جروبات الغش غير صحيحة    التشكيل الرسمى لمباراة أوروجواي ضد البرازيل في كوبا أمريكا    عاجل - مع بداية العام الهجري شاهد خطوات استبدال كسوة الكعبة 1446    تركي آل الشيخ يكشف اسماء الأعمال الفنية التي ستصدر بالتعاون مع الشركة المتحدة    جوري بكر تعلق على انتقادات فتح شاطئ لعمال الساحل الشمالي.. ماذا قالت؟    خالد الجندي: هجرة الرسول تمثل القدرة على اتخاذ قرار.. ونتج عنها ميلاد أمة    «زي النهارده».. اليوم العالمي للشيكولاتة 7 يوليو 2009    رئيس مودرن سبورت: الحديث عن مستحقات أحمد رفعت «سابق لأوانه»    حسن شحاته يطالب بفتح تحقيق في وفاة أحمد رفعت    رئيس كفر الدوار يتابع التزام المحال التجارية بمواعيد الغلق    نشوى مصطفى تتعرض لحادث بسيارتها.. وتعلق: "ربنا نجانى برحمته ولطفه"    وزير الأوقاف ومحافظ القاهرة يشهدان الاحتفال بالعام الهجري الجديد    كوبا أمريكا 2024| تشكيل منتخب البرازيل لمواجهة أوروجواي    مجلس التعاون الخليجى يدين قصف إسرائيل لمدرسة الجاعونى التابعة للأونروا بغزة    مقتل شخصين إثر قصف روسي على مبانٍ في خيرسون الأوكرانية    بحضور حسام حبيب.. جهات التحقيق تعاين الاستوديو محل الاعتداء على شيرين عبد الوهاب    ماذا يريد الشعب من الحكومة؟    جريمة موثقة أضرت بالتعليم.. نقابة المحامين تعلق على واقعة الغش الجماعي بالدقهلية    جمال شعبان يكشف مفاجأة عن سبب وفاة أحمد رفعت    سحر القهوة: تاريخها، فوائدها، وأثرها الثقافي في العالم    لليوم ال 274.. الاحتلال يواصل جرائم الإبادة الجماعيةوينسف المبانى بالشجاعية و"غوتيريش" يحذر من حرب شاملة    عمرو موسى: مصر لا يمكن أن تشارك في تصفية القضية الفلسطينية    وفاة مسن ضربه أبناء شقيقه بعصا على رأسه في الغربية    الذكرى السابعة ل«ملحمة البرث».. حين أفشل منسي ورجاله مخططات الإرهاب    72 ألف متر مربع.. كل ما تريد معرفته عن ميناء الصيادين بسفاجا    بالأسماء، ترشيحات نقابة الصحفيين لممثليها في عضوية الأعلى للإعلام والوطنية للصحافة    آخر فرصة للتقديم.. وظائف خالية بجامعة الفيوم (المستندات والشروط)    الأكاديمية العسكرية المصرية تحتفل بتخرج الدفعة الأولى (ب) من المعينين بالجهات القضائية بعد إتمام دورتهم التدريبية بالكلية الحربية    الكلية العسكرية التكنولوجية تستقبل وفدًا من جامعة العلوم للدفاع الوطنية الصينية    حظك اليوم برج القوس الأحد 7-7-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    استدعاء شيرين عبدالوهاب للتحقيق في بلاغها ضد حسام حبيب بضربها    فضيحة تضرب أشهر ماركات الحقائب.. إطلالات مئات الآلاف سعرها لا يتجاوز ال3 آلاف جنيه    سعر الفراخ البيضاء يتراجع وكرتونة البيض ترتفع بالأسواق اليوم الأحد 7 يوليو 2024    اليوم غرة محرم.. العام الهجري الجديد 1446    نادر شوقي يفجر مفاجأة بشأن وفاة أحمد رفعت    جمال علام: وفاة أحمد رفعت صادمة لجميع المنظومة.. وأجهزة صدمات القلب موجودة    وزير التموين: التسعيرة الجبرية ليست حلا.. ونعمل على زيادة الدعم في الموازنة المقبلة    عاجل.. رئيس مودرن سبورت يكشف تفاصيل عقد أحمد رفعت وقيمة راتبه المستحق لأسرته    احذروا.. تناول هذه الإضافات في الآيس كريم قد يشكل خطراً على الصحة    «الطرق والمستشفيات والتعليم والقمامة».. ملفات على طاولة محافظ المنوفية بعد تجديد الثقة    تعرف على أبرز مطالب مواطني الإسكندرية من المحافظ الجديد    ضبط 3 بلطجية المتهمين بالتعدي على شاب في المرج    سبّ وضرب في اللايف.. كواليس خناقة داخل مستشفى بأكتوبر    دعاء النبي وأفضل الأدعية المستجابة.. أدعية العام الهجري الجديد 1446    أيام الصيام في شهر محرم 2024.. تبدأ غدا وأشهرها عاشوراء    مفتى الجمهورية: التهنئة بقدوم العام الهجرى مستحبة شرعًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الرابعة من رواية المهزوم.. قطعان الذئاب وحشود المهزومين في "المجلة"
نشر في البوابة يوم 08 - 12 - 2015

أغلقت باب الحجرة الضيقة من دون حتى النظر إلى الصالة التى امتلأت مقاعدها فى هذه الساعة من الصباح.
لم أطلب الشاى من سيد، ولم أسأله عن كمال.
هذه المرة، لم تكن بي رغبة في الادعاء، ولا الاستماع.
كانت لحظة الخروج تطغى على كل الرغبات وكان المساءُ بخمرهِ، ونسائهِ، وضجيجه الصامت. وكان الصباح بأغلفة الصداع، وقطعان الذئاب، وحشود المهزومين ولا شيء إلا الرغبة فى لحظات من الصمت علَّها تعيد لى ما أضعتُ.
أخرجت ورقة بيضاء، وكتبت عليها:
«من يبحث عن السعادة لا يسأل بكم».
تأملت العبارة قليلًا، وتذكرت قائلتها، وابتسمت.
كتبت: «ثمانية عشر شهرًا فى هذه الحجرة، وما زلت وحيدًا».
كتبت: «قالوا رماه الله بداء الذئب، يعنون الجوع، لأنهم يزعمون أنه لا داءَ له غير ذلك..».
كتبت: «والذئب حيوان كثير الخبث، ذو غارات، وخصومات، ومكابرة، وحيل شديدة، وصبر على المطاولة، وقلما يخطئ فى فريسته..».
مصيلحى.. هو الأكثر إثارة للامتعاض والاحتقار معًا، لفرط دونيته لا أحب تذكره، ولا حتى ذكر اسمه.
كان دخوله المؤسسة، وتعيينه بها بعد أقل من عام، مكافأة لدوره فى عملية القبض على خاله الجهادى الإسلامى، الذى ورد اسمه فى تحريات المباحث عن المتورطين فى تفجيرات الأقصر، وعدد من التفجيرات التالية.
أوقفه كمين للشرطة بمدخل المنطقة التى كان يسكن بها على حدود القاهرة الكبرى، وبعد تفتيش جميع ركاب سيارة النقل الجماعى التى كان يستقلها، قرر ضابط الكمين احتجازه، رغم محاولاته المستميتة لفتح حديث ودى معه، وفى القسم تسلمه ضابط المباحث عندما علم بعمله كصحفى. سأله عن رائحة الخمر التى تفوح من فمه، وعن الجريدة التى يعمل بها، عن أسماء بعينها، ثم سأله عن المنطقة التى أمسكوه بها، وعن أسرته، وشباب الجماعات الإسلامية بالمنطقة، حتى جاء ذكر خاله.
فى البداية أبدى مفاجأته بمعرفة علاقته بالجماعة، وكان محقًا فى دهشته، فلم يكن يعرف الاسم الحركى لخاله، ولا حتى علاقته بالتنظيم، على رغم عمله لسنوات كمحرر مسئول عن تغطية أخبار وآراء جماعات الإسلام السياسى، لإحدى الصحف الحزبية محدودة الانتشار، لكنه بعد صفعة مكتومة واحدة على مؤخرة عنقه، تحدث مطولًا عن هذا الخال، ومرات زيارته لهم، والتى غالبًا ما كانت تبدأ فى ساعات متأخرة من الليل، وتستمر حتى ساعات الصباح الأولى.
طلب منه ضابط المباحث التعاون، فسأله عن المقابل، وعندما قال له «اللى فيه الخير يقدمه ربنا»، ووعده بفتح أبواب العمل، والكسب المضمون، لم يتردد فى القبول، بل والتطوع بإخبارهم بموعد وصول خاله لزيارتهم أو المبيت عندهم.
ربما لم يرتح الضابط إلى هذا الوعد، لكنه بعد التنفيذ، والقبض على الخال الهارب فى منزل أخته، اعتبره واحدًا من أهم معاونيه فى المنطقة، وفى الوسط الصحفى والحزبى، وبين تنظيمات الإسلام السياسى التى أصبح مرجعًا فيها، وخصوصًا جماعة «الإخوان المسلمين» التى تحول إلى واحدٍ من روافد مدها بالأعضاء الجدد. وتجنيدهم لحساب ضابطه.
بالنسبة له، كانت المهمة بسيطة جدًا، فلم تتطلب منه إلا زيادة مساحة وجوده بجامعة القاهرة، حيث أصبح ضباط الحرس يعرفونه جيدًا، فلا يغلقون فى وجهه بابًا، ولا يوقفون حركته إلا لدواعى الاحتراز والتمويه.. كأن يكون بصحبة أحد مستهدفيه من طلاب الأقاليم عند المرور من البوابة. عندها تزداد درجة التعنت فى تمريره، فلا يسمحون له بالدخول إلا بعد التأكد من هويته الصحفية، والاتصال بأحد أعضاء هيئة التدريس لتأكيد أنه قادم للقائه.. عندها يعطلونه قليلًا داخل غرف الحرس، ثم يسمحون له بعدها بالدخول، لتتحول الواقعة إلى مادة يتحدث عنها طويلًا مع مرافقه، مضيفًا إليها بعض التوابل. كأن يدعى أنهم وجهوا إليه الكثير من الأسئلة حول وجوده داخل الجامعة، مشددًا على أنهم لا يقلقهم شيئا أكثر من اتصاله بأفراد التيارات الإسلامية الملتزمة، داخل الجامعة وخارجها، وحرصه على نشر آرائهم ومواقفهم، وأنه لن يتراجع عن هذا الدور مهما كانت درجة التعنت معه، ومهما كانت التكلفة.
يحكى عن استدعاءات وهمية، أو حدثت بالفعل. يحكى عن لكماتٍ، ومياه باردة فى ظلمات الحجز بأقسام الشرطة، وعن حرمانٍ من النوم، وأشياء يعرف أنها حدثت مع آخرين. يحكى عن تهديدات هاتفية، وزيارات. يحكى حتى يملأ رأس محدثه، ويتأكد أنه سوف ينقل ما سمع من حكايات، بعد قليل من التضخيم، إلى آخرين ينقلونها بدروهم. حتى لا يكون مكانٌ لأحدٍ غيره فى حكاياتهم.
فكانت المكافأة الأولى بتعيينه خلال أشهر معدودة بصحيفة الحزب، وانتقاله من متسولٍ لفرص النشر بالقطعة فى أى صحيفة جديدة، إلى «صحفى شنطة»، يمر على مكاتب الصحف العربية بحقيبته العامرة بالموضوعات والأخبار والتقارير، فتجد طريقها السريع إلى النشر فى غالبية الصحف التى يمر على مكاتبها، ويفتح مديروها أبوابهم على اتساعها لكل ما يحمل من مواد تحريرية، يدفعون مقابلها بسخاء لم يكن يعرفه من قبل.
أما المكافأة الثانية فكانت فى زيارةٍ ليلية إلى مكتب قصر العينى، حيث أبوبكر منصور، النائب البرلمانى، واللواء السابق، ومفاتيح الأسرار، والحكايات، والأبواب المغلقة.
الطريف أنه لم يكد يصدر العدد الأول من المجلة، بعد الكشف عن موقعى الجديد بها، حتى كان مصيلحى على الهاتف يبلغنى بحالة الدهشة التى سيطرت عليه طوال أسبوعين، بشأن التطور الذى بدأ يظهر بوضوح على مستوى الكتابة بها، ومحاولاته معرفة السر وراء ذلك التحول.
قال إنه الآن فقط أدرك السر، وإن وجود كاتب موهوب مثلى على رأس قائمة العاملين بها، هو بلا شك مكسب كبير للمجلة بشكل خاص، والمؤسسة عموما.
قال، وأفاض فى الكلام، عنى، وعن المديح الذى أبلغ رئيسة التحرير به، وعن سعادته الشخصية بوجودى فى المجلة التى يعمل بها.
قال، فلم أملك إلا أن تعلو حمرة الخجل وجهى، فيما تغزو رأسى نوبة من الاطمئنان، والشعور بالثقة فيما لا بد من أننى مقبل عليه. من دون أدنى شك فى دونية محدثى، كأننى عدت ذلك الطفل الذى نسيته فى مملكة التحريم.
منى.. بقدر الضجيج الذى تجلبه عند قدومها، أجد صعوبة فى تجاهلها، أو المرور بالقرب منها، من دون النظر إلى صدرها، على رغم صغره الظاهر لكل ذى عينين.
مطلقة فى الثلاثين من عمرها، أرضعت طفلين قبل طلاقها منذ عامين، ومنذ ذلك الوقت تنتظر الصيد الذى تغويه طيورها الصغيرة بتوقها إلى الطيران، والتحليق بين يدين تدركان جمال عصفورين طال حرمانهما من التحليق عاليا.
دائمة الشكوى، من طليقها الذى يشتاق إليها، ويطاردها فى كل مكان، يتلقط أخبارها، ولا يتردد فى محاولات إيذائها، سواء بالقول أو الفعل، ولا يتحدث عنها أبدًا إلا بالسوء.
من طفليها اللذين لا تستطيع مفارقتهما لوقت طويل، ويقف وجودهما كحاجز دون دخولها فى علاقة حقيقية.
من أمها التى لا تدعها تخرج من المنزل كما تريد، أو فى الأوقات التى تريد، وتنتظر بفارغ الصبر اليوم الذى تتمكن فيه من امتلاك منزل خاص تعيش فيه مع طفليها فقط لا غير.
ومن ناهد، رئيسة التحرير التى تظن أنها تغار منها، رغم الفوارق الواضحة بينهما، وكلها لصالح ناهد، عدا أن منى أصغر عمرًا، وتظن أنها تتعمد أن تسند إليها أصعب المهام بهدف تعجيزها، أو تحدى الفارق الثقافى والمعرفى بينهما. فمنى تعتقد أنها أكثر ثقافة من ناهد، وأكثر حرفية منها، ودراية بقواعد العمل الصحفى، وكثيرًا ما تتحدث عن عدم التزامها بشرف المهنة، وبيعها لصفحات المجلة لكل من يقدر على الدفع، كأنها لا ترى أنه كثيرًا ما يتم شراء قلمها بأثمان بخسة، وتعتبرها مجرد هدايا لا ترتقى إلى إمكانية اعتبارها رشوة، على رغم أنها لم تكن لتحصل عليها لولا موقعها فى المجلة.
أما سرحان فهو شخص طيب إلى حد السذاجة، تجاوز الأربعين بقليل، ويعانى من عدم ثقة مفرط فى نفسه. مجرد تغيير فى نبرة الصوت، أو نظرة العين، ربما يجعله يعيد حساباته كلها، ويغير من موقفه، ولو إلى النقيض، وإذا نبهه أحد إلى تراجعه عن موقفه، يضحك ملء عينيه وهو يقول:
- يا عمنا.. خُلق الرجال للتراجع.
يحب أصدقاءه إلى درجة التفانى فى إرضائهم، ولا يجيد حسابات المكسب والخسارة، فيترك نفسه مثل ريشة تحركها الرياح أينما أرادت، وإلى أى اتجاه. أو هذا ما يبدو منه أمام الجميع.
تعرف بناهد فى مؤتمر صحفى بأحد الفنادق للإعلان عن بدء تصوير أحد الأفلام الجديدة، وكانت مجرد محررة فى صفحات الفن بالعدد الأسبوعى بالمؤسسة، بينما كان هو رئيس القسم الفنى فى صحيفة حزبية، وتصادف أن جاء موقعها بجواره، وكلما تم تقديم أحد المتحدثين، كانت تسأله «من هذا؟ وما عمله؟» ما عدا الممثلين طبعًا، فقد كانت تحفظ أدوارًا لهم جميعًا.
وعندما انتهى المؤتمر، وبمجرد تعارفهما، قالت له إن أسوأ ما فى المؤتمر أنه بدأ مبكرًا، حتى إنها لم تتمكن من تناول فنجان القهوة قبل الحضور، فما كان منه إلا أن دعاها إلى فنجان فى كافتيريا الفندق لاستكمال التعارف، ولم يدهشه أنها طلبت شايا بالحليب، لم تكن قد انتهت منه بينما كان هو قد انتهى من كتابة تقرير كامل عن المؤتمر، وأهم ما فيه، لكى تستعين به فى كتابة تقريرها.
وربما لهذا كان سرحان حالة استثنائية فى علاقته بها.. لمعرفتها بتركيبته التى خبرتها على مدار لقاءاتهما القليلة، سواء فى مؤتمرات صحفية، أو مهرجانات، أو بلاتوهات تصوير.
لا علاقة له بالتمرد، وربما لا يعرف أصلًا أن هناك مفردة بهذا المعنى، ولا يفكر فى أى شيء أبعد مما يفعله فى نفس اللحظة، وإذا قلت له أى معلومة عادية، يرد بدهشة: والله؟!
ثم تنفلت منه ضحكة صافية، لا تعرف منها إذا ما كان يضحك عليك أو يضحك لما يسمعه، أو لماذا يضحك، خاصة عندما يتبعها بعبارة أخرى من كتاب محفوظاته الذى يعرفه الجميع «حاجة غريبة فعلا»، أو «بجد؟!»
ولهذا عندما تم تغيير رئيس تحرير الجريدة التى كان يعمل بها، وجاء رئيس التحرير الجديد بقريب له ليتولى رئاسة قسم الفن، وجد سرحان نفسه فى موقف لم يجربه من قبل، فلا هو يستطيع العمل تحت رئاسة ذلك الوافد الغريب، والأقل منه خبرة بالوسط الفنى، وبالصحافة كلها، ولا هو يستطيع الاستقالة من العمل، والبحث عن مكان يبدأ فيه من جديد.
وهنا كانت الفرصة التى اغتنمتها ناهد بمهارة.
لم تكن قد مضت أشهر قليلة على تعيينها رئيسًا لتحرير المجلة، ومشرفًا على صفحات الفن فى العدد الأسبوعى بعد رحيل المسئول عنها، فأرسلت من يوعز إليه بأنه إذا هاتفها، فربما تعرض عليه الانتقال إلى المؤسسة بعيدًا عن قرف الصحف الحزبية وفقرها، بل إنها ربما تعطيه منصبًا معها فى المجلة أو العدد الأسبوعى، لأنها فى حاجة إلى صحفيين أكفاء، بعد امتناع صحفيى المؤسسة عن العمل معها، وحقدهم عليها، لمجرد أنها أحدث منهم فى التعيين.
إلا أنه عندما هاتفها لم تعرض عليه أى شيء، ولم يجرؤ هو على أن يطلب منها شيئًا، خصوصًا أن ذلك الذى أشار عليه بمهاتفتها، لم يقل له أن يسألها عملًا، وعندما سأله:
- لكن ماذا أقول لها؟
قال له:
- ولا أى شيء، كل ما عليك أن تبارك لها على رئاسة التحرير، وتعتذر عن أنها مباركة متأخرة.. والمؤكد أنها بمجرد أن تسمعها سوف تسألك العمل معها.
كان الإحباط واضحًا فى صوته، وهو يحاول أن ينهى المكالمة بسؤالها:
- طيب.. أى أوامر؟
هنا كانت مهارتها فى التلاعب به.
عرضت عليه أن يمر عليها فى المكتب لتناول فنجان من الشاى، وعندما سألها:
- «متى يكون مناسبًا لك؟»
ردت:
- «فى أى وقت.. هل يمكنك أن تمر على مكتبى يوم السبت المقبل؟»
كانت المكالمة يوم السبت، وهو ما يعنى أسبوعًا كاملًا من الانتظار، وتحمل المنغصات فى العمل، والإجهاد فى التفكير.. بل مع احتمال أن تكون دعوتها لمجرد تناول الشاى.. لا أكثر ولا أقل.
ولهذا فعندما دخل حجرة مكتبها، بعد ساعة من الانتظار بمفرده فى حجرة السكرتيرة الضيقة، كان على استعداد لأن يقبل بأى عرض تقدمه له، بل إنه هو من بادر بسؤالها عن إمكانية الانتقال للعمل فى مؤسسة قومية «بعيدًا عن قرف الصحف الحزبية وفقرها».. فسكتت قليلًا، ثم قالت: إذا كنت تحب، يمكننى أن أتكلم مع الأستاذ إسماعيل بشأن انتقالك للعمل معى بالمجلة، لكنك تعرف أن المؤسسات القومية صعبة.
دخل سرحان المؤسسة بعد هذه المقابلة بيومين لا أكثر، فظل إلى يومنا هذا لا يتحمل غضبها منه، ولا حتى أن تصلها عنه كلمة يمكن أن يُساء فهمها، أو تُحملها بأى معان تُغضبها.
ربما كان لا يحبها فى قرارة نفسه، لكنه لا يقبل أن يقال عنه إنه عض اليد التى امتدت إليه فى يوم من الأيام، بل لا يريد أن يصدق أنها هى من كانت بحاجة إليه، وهى من أرسلت إليه بمن يدفعه إلى مهاتفتها، وتلاعبت به.
لم يأت سيد ولا كمال..
ألقيتُ نظرةً عبر حائط الزجاج، وطالت نظرتى قليلًا، وعندما انتهيت من خدرها، كتبت: «ناهد شكري»..
أعدت كتابة اسمها، مرة، مرتين، ثلاثًا.
تأملت ما فى اسمها من جمال، وكتبت: «والأنثى أكثر فسادًا من الذكر، والذئبُ إذا عجز عن مقاومة فريسته يعوى طلبًا للمساعدة فتأتيه الذئاب، وإذا مرض ينفرد عن بقية القطيع، لعلمه بأنها إذا علمت ضعفه أكلته».
الآن فقط أعرف لماذا لم أحس براحة فى المرة الأولى التى رأيتها فيها، ولا لماذا لم أبادر بمساعدتها فيما جاءت إلى مكتبى من أجله.
كان ذلك منذ ما يقرب من 15 عامًا، وكنت وقتها أعمل فى قسم الديسك المركزى للعدد اليومى، حيث مكتب الأستاذ عبدالهادى، رئيس القسم، الذى كانت تأتى إليه يوميًا ليلقى نظرة على موضوعاتها قبل تسليمها إلى المشرف على صفحة البرلمان الأسبوعية، قبل انتقالها إلى قسم الفن والمنوعات بالعدد الأسبوعى، والتى لم يكن مضى على عملها بها إلا أشهر قليلة.
بعد جولة بين محطات الأخبار، وبرامج الهواء خلال نوبتى فى السهرة، كان آل باتشينو يقدم نفسه إلى فتاة لا يعرفها، تجلس فى انتظار صديقها.
أعرف ذلك المشهد من فيلم «عطر امرأة»، وأحفظ تفاصيله تقريبًا.. وكان يرقص التانجو مع الفتاة بعد أن أخبرها بالعطر الذى تضعه هدية من جدتها، عندما دخلت ناهد حجرة الديسك، لتجدنى فى حالة استرخاء كاملة، بعد أن فرغت من العمل، وفرغت الحجرة من بقية العابرين بها.. وتفرغت لمتابعة التليفزيون فى انتظار أى جديد.
سألت عن الأستاذ عبدالهادى، وقلت لها إنه فى قسم التنفيذ، وربما لا يأتى إلا بعد الانتهاء من العدد فى السابعة مساء.
ألقت نظرة عابرة على نهايات رقصة التانجو، وقالت إنها لا تحب أفلام الدراما الإنسانية، ولا تشاهدها، حتى لا تتأثر بها، على رغم أن ذلك لم يحدث حتى وهى صبية صغيرة.. فدائمًا ما كانت تسخر من حب شقيقتيها للروايات العاطفية، والأفلام الرومانسية، ودائمًا ما كانتا تجبرانها على مشاهدة تلك النوعية من الأفلام، على اعتبارها الأصغر سنًا، فكانت تفسد عليهما متعة البكاء فى المشاهد التى تستدر الدموع، بالضحك منهما.
قالت إنها تحب روايات العصابات، وأفلام المافيا، فهذه هى الحياة كما يجب أن نعرفها، لا مكان للعواطف والمشاعر إلا فى أفلام السينما، والروايات التى يضحكون بها على المراهقين والمراهقات، وخيالات الشواذ من الناس، أو من يسمونهم الشعراء.. أما فى الحياة الحقيقية، فكل شيء يبدأ وينتهى عند كلمة واحدة «السلطة»، درجة قربك منها، فما تملك من سلطات هو ما يحدد موقعك فى عيون الآخرين، وهو وحده ما يجب أن تعمل له، لا بد من أن يسير كل شيء فى حياتك وفق تخطيط دقيق، وكلما كانت الخطط محكمة وواعية بما حولها، كان من حقها النجاح وجنى النتائج.
قالت إنها تحب لهذا الممثل ثلاثية «الأب الروحي»، لما فيها من أساليب مدهشة فى القتل، وتصفية الحسابات، وما كان يبدو على وجهه من براءة ولطف فى الوقت الذى ينفذ فيه أتباعه أبشع الجرائم، ويجنى ما يريد من السلطات والثروات.
كان قد مضى على التحاقى بالمؤسسة نحو ثلاث سنوات، أو أكثر قليلًا، قضيت منها عامًا كاملًا بصالة التحرير المركزى للإصدار اليومى، المعروف بالديسك المركزى، وعلى رغم أنها كانت محررة بالإصدار الأسبوعى من الجريدة، فإنها كثيرًا ما كانت تأتى إلى صالتنا تلك.
لم يلفت انتباهى كثيرًا معرفتها بقصص التاريخ المصرى القديم، وحكايات الملكات.. كانت معجبة بكليوباترا، مبهورة بقدرتها على التأثير فى كل ما حولها، من جماد وكائنات حية، بسحرها، وأهدافها، وطريقتها فى الوصول إلى ما تريد، وكانت عيناها تلمعان ببريق غامض، إذا ما جاءت على ذكر الملكة حتشبسوت، وقوة شخصيتها، وتسلطها، لكنها لم تكن تحب نفرتيتى الجميلة، وترى أنها لم تفد كثيرًا من جمالها، وسحر أنوثتها، بل إنها عاشت خاضعة لسلطان زوجها، ما أدى فى النهاية إلى قتلهما معًا. وتأسى لجمال ابنتها ميريت، ولأوضاع المرأة الحديثة إذا ماقورنت بأيام الملكات، بل وبنساء القرى.
قالت، وقالت، وأفاضت فى الكلام.
لم أخالفها الرأى فى كل ما قالت، فلم تكن المخالفة فى الرأى من عاداتى..
ولم أقاطعها فى كل ما قالت، فلم تكن المقاطعة من عاداتى..
ولم تتوقف عيناى عن زيارة صدرها.. فلم يكن تجاهل مثل نهديها من عاداتى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.