رغم أنه كان من بين أنزه النقاد المصريين والعرب، ومن أكثرهم شجاعة فى تناول القضايا الأدبية والفكرية والسياسية والفنية بوضوح شديد، فإنه لم يكن على وفاق تام مع الحياة الثقافية، وكان كثيرون يختلفون معه، لدرجة الكراهية، وبعضهم كان يطلق الإشاعات المغرضة حول حياته الاجتماعية، إذ إنه لم يتزوج قط، وكان يعيش كما يريد، ويكتب كما يريد، دون أدنى حسابات مرتبطة بجوانب سياسية أو شخصية أو شللية، فلم تكن له شلة يستند إليها، وبالتالى لم يجامل أحدًا، فعندما يحب كتابة مبدع يرفعه إلى عنان السماء، والعكس بالعكس، لذلك هاجمه بعض من تمردوا عليه، رغم نزاهتهم هم أيضًا. وبالطبع لم تكن كتاباته النقدية ترضى الجميع، ومن الطبيعى أن يكون منظوره النقدى خاصًّا ومختلفًا، إذ إنه اختار أن يكون مستقلاًّ تمامًا، فلم يكن مرتبطًا ارتباطًا وظيفيًّا بمجلة أو صحيفة، فتعددت مساحات الكتابة فى صحف ومجلات مختلفة ومتنوعة، ولكن يبقى فاروق عبد القادر هو هو، لا يتلون بسياسة هذه المجلة أو بمنهج تلك الصحيفة. ففى مطلع شبابه كتب فى مجلة روزاليوسف بتاريخ 8 مارس 1965، أى منذ خمسين عامًا، ليدلى برأيه حول العدد الأول من مجلة الفكر المعاصر ، التى ترأس تحريرها فى البداية الدكتور زكى نجيب محمود. وأبدى عبد القادر ملاحظاته حول المجلة، وحول رئيس تحريرها الذى يعتنق فلسفة خاصة وهى الوضعية المنطقية ، وطرح فاروق عبد القادر هواجسه التى تخشى أن تنسحب المجلة بشكل كامل نحو هذه الفلسفة، وشرح متونها، وترجمة نصوصها، وطالب رئيس التحرير بتوسيع توجهات المجلة، وانفتاحها على كل التيارات الفكرية والفلسفية، وكتب فاروق هذه التحذيرات دون أن ترهبه قامة زكى نجيب محمود على الإطلاق. وكان عبد القادر يكتب فى مجلة المسرح ، وترجم فيها بعض المسرحيات، وكتب فيها كذلك دراسات مهمة عن المسرح، وكان يعد من أهم النقاد المسرحيين، وله فى ذلك الشأن كتابات نقدية كثيرة، جمعها فى كتب كثيرة بعد ذلك، منها ازدهار وسقوط المسرح المصرى ، و مساحة للضوء.. مساحات للظلال ، و نافذة على المسرح الغربى ، و رؤى الواقع وهموم الثورة المحاصرة.. دراسات فى المسرح العربى المعاصر ، وغيرها. وكتب فى الرواية والقصة القصيرة والفلسفة والسياسة، وترجم لأنطون تشيخوف وتنيسى وليامز وبيتر بروك وأرتور أداموف وغيرهم. وعندما تولى ملحق الأدب والفن فى مجلة الطليعة اليسارية المصرية، اكتشف عددًا من المواهب المصرية والعربية، وأثار قضايا جوهرية فى الثقافة المصرية، وأعدّ ملفات مهمة عن يحيى حقى ومحمد مندور ولويس عوض، رغم اختلافه الشديد جدًّا معه، وقد هاجمه فى كتابات كثيرة، ولكنه لم يمتنع عن السماح لآخرين بأن يحتفوا بعوض وفق تصوراتهم. وكان ملف الطليعة يحتفى بالإبداع العربى احتفاءات ذات قيمة عالية، وكتب عبد القادر نفسه دراسات رصينة عن السورى حنا مينة، وعن الجزائرى الطاهر وطّار، والفلسطينى غسان كنفانى، وسحر خليفة وجبرا إبراهيم جبرا، وعن المسرحى السورى سعد الله ونوس، الذى كان مفتونًا بما يكتب وبما يعرض له من مسرحيات. ولأن فاروق عبد القادر كان ناقدًا مختلفًا، فقد كان حادًّا، فاشتبك مع كتاب كثيرين، وعلى رأسهم الدكتور سمير سرحان، كما أشرنا قبل ذلك، عندما هاجم عبد القادر السيرة الذاتية لسرحان، واشتبك مع لويس عوض ولطفى الخولى ورشاد رشدى ويوسف إدريس، وكان هجومه على جمال الغيطانى فادحًا، ويصل إلى حد التعريض الشخصى، مما أثار غضب كثيرين حول ما كتب. وحول رشاد رشدى -على سبيل المثال- كتب مقالاً تحت عنوان تجليات رشاد رشدى، أو عودة ذى الوجه القبيح عام 1987، وكانت الهيئة المصرية العامة للكتاب قد أصدرت كتابًا تذكاريًّا بمناسبة مرور أربع سنوات على رحيل الكاتب والناقد والأكاديمى الدكتور رشاد رشدى، وشارك فى كتابة هذا الكتاب أحمد بهجت، وأنيس منصور، وسمير سرحان، ومحمد سلماوى، ومحمود فوزى، وعبد العزيز حمودة، وكان أول من هاجمهم عبد القادر هو أحمد بهجت -ابن شقيقة رشاد رشدى- فيقول: إن سيرة حياة الرجل فى جوانبها العامة والخاصة معروفة، ونتاجه الفكرى متاح منشور، وكل هذا يوحى بالبعد -كل البعد- عن أى مظنة بالبراءة، ولكن.. ماذا يمكنك أن تقول فى وفاء الكاتب لخاله؟ والخال -كما يقول أهل بلادنا- والد، وكما يقول أهل علم النفس، صورة الأب للأب . نسيت أن أقول إن فاروق عبد القادر كان قد تخرج فى كلية الآداب قسم علم النفس، وتتلمذ على أساتذة أجلّاء فى مقتبل الخمسينيات، أولهم د. مصطفى زيور، ثم الدكتور مراد كامل صاحب المنهج التكاملى فى علم النفس ، والدكتور مصطفى صفوان أحد أهم الأساتذة الذين زرعوا الفكر الماركسى فى عقل الشاب المثقف، وكان كذلك الدكتور عبد الرحمن بدوى، الذى تعلم منه مبادئ الفلسفة الوجودية. ورغم أن فاروق عبد القادر كان أقرب إلى الفكر الماركسى، نظريًّا وتطبيقيًّا، فإنه لم يستطع الاستمرار فى العمل السياسى المنظم، وكان قد شارك فى المقاومة الشعبية فى عام 1956، وكان قد تماسّ مع الحزب الشيوعى المصرى.. الراية فى ذلك الوقت، فى أثناء حرب 56، أو فى أثناء العدوان الثلاثى على مصر. هذا الناقد الذى كان يلتقى الكتاب والمبدعين والمثقفين على مقهى سوق الحميدية كل مساء من يوم الأحد أسبوعيًّا، وكان يحتفى بجلّاسه، ويحتفون به، لم يَسِر فى جنازته سوى عدد قليل جدًّا من هؤلاء الجلّاس، وكان بين هذا العدد القليل الراحل العظيم إبراهيم أصلان، والصديق سعيد الكفراوى -أطال الله فى عمره- وقد عاد الصديقان يحملان قدرًا كبيرًا من الأسى، لهذه النهاية المأساوية.