رغم محاولات طمس فرسان الفن في الزمن الجميل، تظل قامة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب كمسلة في ميدان عام، يمضي التاريخ وهي منتصبة في كبرياء وشموخ.. وقد عرفت الموسيقار عائلياً، فقد كنا ندعي آمال العمدة زوجتي الراحلة وأنا في مناسباته الاجتماعية.. وكنت بالنسبة للموسيقار "الصديق المحاور" وكانت آمال تحظي بتسجيلات نادرة منه ومن الزوجة الوفية نهلة القدسي منحها الله الصحة والعافية.. وفي الأغلب الأعم كانت ثقافة محمد عبدالوهاب "سمعية".. كان يصب في أذنه "رافدان"، أحدهما د. مصطفي محمود والثاني الكاتب الكبير موسي صبري.. كان مصطفي محمود يسبح معه في سماء التأملات وكان موسي صبري يفك له طلاسم السياسة وكان لدي الموسيقار قدرة هائلة علي الاستيعاب.. وعندما كنت تتحدث مع الموسيقار كنت تشعر أن الأفكار، أفكاره وآراؤه، ويضيف لها روحه المرحة.. عبدالوهاب عالم قائم بذاته، عالم منظم مرتب رغم أنه فنان وهو يبرهن علي أن الفنان ليس شخصية فوضوية، بل إنه يسير وفق نظام يتفق وعاداته وطقوسه، أما الفن عنده، ف "عملية الإلهام".. ولذلك يأتيه هذا الإلهام في أي وقت وربما لهذا كان الموسيقار يبدو في لحظات معينة لمن اقترب منه شاردا، كمانه "يستقبل" ما كان يسميه بالخاطر الموسيقي، فيسرع إلي غرفة صغيرة بجوار حجرة نومه ويسجل هذا الخاطر. محمد عبدالوهاب، رغم إحاطة كاملة بالسياسة، لم يكن "صوت" حزب من الأحزاب وكان يقول: إن الفنان "ملك كل الناس" وليس طيفا سياسيا بعينه.. لكني كنت ألمح إحساسا خاصا نحو حزب الوفد ولكنه كان يخفي مشاعره الحزبية تحت جلده.. كان عبدالوهاب ينطوي علي إعجاب بشخصية سعد زغلول وكان يري فيه زعيماً وطنياً.. ولما قيل للموسيقار إن سعد "يلعب الورق" ساعة المساء، قال بصوته الرخيم "إنه بشر، لكنه لا يقامر بوطنه". كان الموسيقار يؤمن بأهمية الفن في صناعة وجدان الشعوب ولذلك تعتبر أغاني عبدالوهاب الوطنية بحلاوة أغانيه الخالدة في الكرنك والجندول. كان عبدالوهاب في أعياد ميلاده يندهش من "إطفاء الشموع" وكان يقول أنا أفضل أن أضيء الشموع لأن "لكل عمر حالة".. وعمرك هو تجربتك.. ومما لا شك فيه أن تأثير شوقي بك علي محمد عبدالوهاب، كان كبيرا، فقد كان الموسيقار يرصد أسلوب أحمد شوقي في الحياة.. وذات مرة قال لي في لحظة صفاء: إن محمد عبدالوهاب ليس إلا "أذن" كبيرة سمعت من الطبيعة كثيرا ومن الإنشاد الديني أكثر ومن موسيقي الغرب جمالياته وفي النهاية كانت موسيقاه، لكنه لا يكف عن الاستماع.. وذات أمسية سأل مصطفي محمود الموسيقار عن أهم حاسة من حواس الإنسان، فقال عبدالوهاب "بدون تردد حاسة السمع". الشيء المهم في سيرة الموسيقار هو احترام الفنان لفنه واحترامه لنفسه. وإعطاء الفن الأولوية في الاهتمام.. ولعل أشهر ما تميز به عبدالوهاب هو "الوسوسة".. وهذا حقيقي، فالوسوسة الصحية عند الموسيقار كانت تعني "الحذر من الإفراط والتفريط".. والوسوسة الفنية كانت تعني "هناك شيئاً ما ينقصني ولكن ما هو؟".. لقد عاش موسيقارنا بوسوسة إيجابية، منحته فناً عاش أجيالاً ومازلنا نشعر بعطش له.. وحتي آخر لحظة من حياته كان يأكل بحساب ويمشي داخل بيته ومازال "جامعة" لكل صوت "مضروب بالفن".