مثلما هي القاعدة التي أصبحت سائدة في عالمنا اليوم: يشكو الجنوب، وتتعالي صيحاته، ويتحدث.. ويتحدث.. ويتحدث، ثم يقرر الشمال وينفذ ليخضع الأول ككل مرة!! ولأن القرارات والتوصيات لا تفرض علي "الأقوياء"، وإنما يفرضونها هم، فمثلما حدث في "كيوتو"، لم تستطع مناشدات وتوسلات الجنوب أن تلين قلب الشمال في مؤتمر "قمة المعلوماتية" الذي انتهت فعالياته قبل أيام. ورغم أن مطالب دول الجنوب فيما يتعلق بالحصول علي نصيب عادل من الثروة التكنولوجية، ربما تبدو من وجهة نظر قيم العدل والأخوة والمساواة، حقا إنسانيا، إلا أن الحق لا يمكن أن ينتصر ما لم تسانده قوة، كما تؤكد كل دروس التاريخ. وكان شعار "ردم الهوة الرقمية" هو الأكثر شيوعا بين معظم ما كتب في هذا الشأن، منذ بدأت الدعوة للمشاركة في تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات التي ظهرت كفكرة عام 1998 بمبادرة من أعضاء "الاتحاد الدولي للاتصالات" حتي عقد مؤتمر قمة المعلوماتية في تونس استكمالا للقمة التي عقدت في جنيف ديسمبر 2003 ولا أعرف كيف يطمح "معدومو" المعلومات في "ردم" الهوة بينهم وبين محتكري "المعلومات"؟.. ردمها مرة واحدة!! ولم يذكر سوي قلة من المتواضعين تعبير "تضييق" أو "تجسير" الهوة. الحرية.. الحرية وقبل أن ينعقد اليوم الأول لمؤتمر تونس الذي عقد من 16 إلي 18 من الشهر الجاري اتضح كيف يغني كل من أغنياء العالم وفقرائه "علي ليلاه"، وسبق افتتاح القمة مفاوضات مضنية استغرقت أكثر من 11 ساعة، وأفضت إلي اتفاق علي عدم اثارة موضوع سيطرة الولاياتالمتحدة علي شبكة الانترنت العالمية مقابل إتاحة وصول الفقراء إلي الشبكة العالمية للمعلومات ومن أولي جلسات القمة ركز زعماء وممثلو الدول الكبري في كلماتهم علي قضايا الحريات العامة، وحرية نقل المعلومات، بينما اختار حكام الدول النامية التركيز علي المطالبة "بردم" الهوة الرقمية القائمة بين الشمال والجنوب، ودعوة الدول الصناعية لدعم توفير البني التحتية التي تمكن شعوب العالم الثالث من مواكبة ثورة التكنولوجيا الرقمية في العالم. وكان الاشراف علي شبكة الانترنت الدولية نقطة الخلاف الرئيسية خلال المؤتمر حيث تطالب دول العالم الثالث بتعديل نظام الاشراف علي شبكة الانترنت الدولية الذي تحتكره الولاياتالمتحدة وطالب مشاركون "بأن تكون إدارة الانترنت متعددة الاطراف وشفافة وديمقراطية" و"بمشاركة كاملة من الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات الدولية". ودعوا إلي "التعاون من أجل ايجاد الصيغ والسبل الكفيلة بعولمة الانترنت وضمان توزيع فوائدها توزيعا منصفا وتيسير النفاذ إليها وتعميم مزاياها وأهدافها الإنسانية والوصول إلي تفاهم مشترك بشأن المسائل المتصلة بأمن الإنترنت". بينما دعا الاتحاد الأوروبي مدعوما بعدة دول من بينها إيران إلي تخويل مهمة مراقبة الانترنت إلي هيئة دولية تتبع الأممالمتحدة. إلا أن الولاياتالمتحدة تصر علي استمرار احتكارها للإشراف علي الشبكة عبر مجلس إدارة شبكة الانترنت (إيكان) الأمريكي الذي أنشيء عام 1998 ومقره كاليفورنيا، ويسيطر علي سوق "خدمات الانترنت" في العالم ويتحكم في الخدمات الجذرية التي تمكن من الوصول إلي المواقع وتسجيل النطاقات (مثل دوت كوم. وأورج. وغيرها) وتعلل الولاياتالمتحدة رفضها لمشاركة دول العالم في هذا الاشراف بأن ذلك قد يمنح دولا لا تحترم حرية التعبير سلطة علي الانترنت بينما يري خبراء أمريكيون أن تعديل هذا الوضع الاحتكاري ربما يؤدي إلي تبعثر الشبكة الكونية وتحويلها إلي مجموعة شبكات قارية يصعب السيطرة عليها ومراقبتها. رومانسية الفقراء وفي نهاية أيام المؤتمر الثلاثة كان أقصي ما توصل إليه المجتمعون هو اتفاق يبدو قريبا من اقتراح الاتحاد الأوروبي. ونص الاتفاق علي إقامة "منتدي" دولي يهدف إلي مناقشة المسائل المتعلقة بالانترنت مثل الرسائل الالكترونية غير المرغوب فيها (سبام) والفيروسات المعلوماتية والجريمة عبر الإنترنت. وهذا المنتدي الذي سيدعوا إليه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان، سيعقد أول اجتماع له العام المقبل في اليونان وتنص التسوية أيضا علي عملية تعاون برعاية "منظمات دولية معنية" لإقامة إشراف دولي علي الانترنت. لكن هذه الإجرءات الموازية لن يكون لها أي سلطة علي شركة "ايكان" التي تصر واشنطن علي استمرار وضعها الاحتكاري. وهكذا اتضح أن التسوية التي خرج بها المؤتمر كانت بين دول الشمال ممثلة في الولاياتالمتحدة من ناحية والاتحاد الأوروبي من ناحية أخري بينما خرجت دول العالم الثالث دون أن تحصل حتي ولو علي مجرد وعد بتحقيق مطالبها حيث رفضت الدول الغنية الالتزام بالمساهمة في صندوق التضامن الرقمي" المفتوح للمجموعات المحلية والقطاع الخاص، ولم يدخل الصندوق الذي يهدف لدعم تجهيز الدول النامية بأحدث تقنيات الاتصال بأسعار زهيدة منذ إنشائه في جنيف عام 2003 سوي ثمانية ملايين يورو. ومازال نحو خمسة مليارات نسمة من بين ستة مليارات هم إجمالي عدد سكان العالم محرومين من فرصة التعامل مع الانترنت رغم أن "مؤتمر افريقيا الاقليمي" التحضيري للقمة، الذي عقد في مالي بمدينة باماكو عام 2002 والذي شارك فيه ممثلو 51 دولة أفريقية كان حافلا بالأماني الطيبة فجاء تقريره النهائي مغرقا في التمنيات علي النحو التالي: - ينبغي أن يوجه مجتمع المعلومات العالمي اهتمامه إلي مصالح جميع الدول وبالأخص مصالح البلدان النامية. - ينبغي تمكين كل المواطنين من وسائل استعمال شبكات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كخدمة عامة. ينبغي ضمان حق كل مواطن في حرية التعبير وحماية نفاذه إلي المعلومات في الميدان العام العالمي كجزء من حقه الثابت في النفاذ بحرية إلي المعلومات التي تشكل تراث البشرية، وتوفير البنية التي تمكنه من ذلك. كما أكد المؤتمر التحضيري الذي عقد في القاهرة في يونيو 2003 "علي ردم الفجوة مع احترام حق المواطن العربي في أن تكون له ثقافة رقمية خاصة به". وهكذا يثبت الفقراء رومانسيتهم، فما الذي يدفع الأغنياء لتحقيق مطالبهم ومنحهم ما يتطلعون إليه من حقوق طالما يقنع الفقراء بأن تظل جميع أوراق اللعبة بأيدي الأغنياء، ودون أن يبحثوا عن أوراق الضغط التي يملكون استخدامها، أو يدرسوا سبل استخدام هذه الأوراق؟! ekrameypt@yahoo. com