انبثق الاتحاد الاوروبي من ركام الحرب العالمية الثانية ، برغبة في توحيد القارة وتجاوز الخلافات القومية ، التي كانت وراء اندلاع الحروب والصراعات . تعد صيغة الاتحاد الاطار المعالج لتناقضات أوروبا ومحاولة دمجها بتوحيد السوق وازالة العقبات والحدود أمام حرية التجارة والافراد واستيعاب القطار الشرقي الذي من الممكن أن يؤدي إلي الانشقاق العقائدي بين غرب أوروبا وشرقها . يقوم جوهر الاتحاد الاوروبي على مبدأ حرية التجارة وانتقال الافراد وحصولهم على حقوقهم وصيانتها بالتشريعات التي تنظر إلى دول الاتحاد "28" دولة من منظور القانون يستهدف بناء أوروبا جديدة ليست في عراك مع نفسها كما حدث خلال حربين عالميتين.. سعى لتحقيق هذه الموجة الاوروبية شخصيات مهمة على ساحة التفكير الاتحادي المستنير مثل الزعيم الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران مع مجموعة أخرى من بريطانيا وألمانيا مثل المستشار كول بالاضافة إلى دول أخرى شجعت على الاندماج وطرح العملة الموحدة وازالة العديد من العقبات لتطوير صيغة قادرة على امتصاص الخلافات الاوروبية ووضعها تحت المجهر لمحاولة حلها . لا يرى اليمين في أوروبا هذه النظرية التوافقية الاندماجية ويعتبرها تشكل خطراً على سيادات الدول وهناك فريق قوي في بريطانيا يطرح هذا الرأي ويحصل على أصوات الناخبين ، وهو ما حدث في دائرة بريطانية خلال انتخابات فرعية ، إذ ازاح حزب الاستقلال الآخر المحافظ الذي يتزعمه ديفيد كاميرون من المركز الاول ، حيث الأول ذهب إلى العمال وحصل الحزب الجديد على مجموعة تصويتية كبيرة مما دفع الحزب الليبرالي المشارك في الحكم الآن لخسارة الانتخابات بشكل مهين وضاعت منه الاموال التي دفعها كرسوم للمشاركة في الانتخابات . رغم أن هذه النتيجة صادمة ، بأن رئيس الوزراء والزعيم المحافظ وضعها في اطار انتخابات فرعية للبرلمان ولا يصح النظر إليها باعتبارها تحدد شكل مجلس العموم المقبل . لكن العشرات من المعلقين اختلفوا مع كاميرون لأن حزب الاستقلال الجديد ينمو بسرعة ويهدد الحزب الليبرالي بأخذ موقعه ودفعه إلى السفح وتهديده . ويعاني حزب المحافظين نفسه من الموقف ذاته نتيجة تغير اتجاهات الريح بين المواطنين ومنح الغاضبون والمعترضون على ما يسموه هيمنة الاتحاد الاوروبي أصواتهم للحزب الجديد الصاعد في موقف احتجاجي على تدخل أوروبا في صوغ القوانين والحياة البريطانية ، والامر الثاني الناجم عن هذه المعادلة هو الاعتراض على تدفق هجرة من أوروبا الشرقية يحذر منها هؤلاء لأنها قد تملك التأثير على الهوية البريطانية بالكامل ، حيث أصبحت بعض المدن البريطانية تظهر فيها قوميات أوروبية شرقية بعاداتها المختلفة وافكارها وتقاليدها مما يتعارض مع نشأة البريطانيين وسلوكهم ورؤيتهم للحياة . يطالب اليمين البريطاني الصاعد الممثل الآن في حزب الاستقلال بغلق أبواب الهجرة امام الاوروبيين الشرقيين لأنهم في رأيهم الخطر الكامل . ويضغط الحزب على ديفيد كاميرون حتى يطالب الاتحاد الاوروبي باعادة التفاوض على مبادئ ثابتة لا يمكن التراجع عنها وقد وعد رئيس الوزراء باجراء استفتاء في عام 2017 حتى يختار البريطانيون إما البقاء داخل الاتحاد أو الخروج منه . وللوصول إلى موعد هذا الاستفتاء هناك وعود حكومية تطرح اعادة التفاوض مع الاتحاد الاوروبي لتعديل بعض الاتفاقيات وعلى رأسها قضية حق التنقل والعمل والاقامة وهو ما استغله الاوروبيون الشرقيون بالتدفق على بريطانيا . قال مانويل خوسيه بروسو رئيس المفوضية الاوروبية خلال زيارته للندن ، ان هذا الحق هوهوية الاتحاد ولا يمكن قبول التفاوض بشأنه . وكان حديثه يترجم فكر الاتحاد الاوروبي الذي أصبحت عضويته تضم 28 دولة بازالة الحدود وجعل القارة ساحة مفتوحة أمام رأس المال والافراد والتجارة لانهاء حواجز التنافس في الساحة والتي قادت إلى حروب وكوارث.. قال بروسو انه يمكن مناقشة استغلال هذا الحق ووضع الضوابط له ، لكن غير المطروح على الاطلاق اعادة التفاوض على حقوق هي من هوية الاتحاد وصلب كيانه ووجوده ، فقد أدت الموانع السالبة إلى اشتعال التنافس الشرس والدخول في معارك وحروب ، وقد تجاوزت أوروبا هذا المرفأ الخطير وهي تبحر الآن في سلام مستقر تنعم به القارة منذ أكثر من 60 عاماً.. اليمين في فرنساوبريطانيا واليونان وعدة دول أخرى لا يرغب ولا يرحب بما يقوله رئيس المفوضية الاوروبية العليا ، لأنه يعترض على ما يجري الآن من ازالة الحدود وتدفق الهجرة بهذه الارقام العالية . هناك محاولة لانشاء جبهة بين الاحزاب اليمينية المتطرفة للتصدي لما يسمونه الفيدرالية ، ويريد هذا الفريق استعراض قوته خلال انتخابات البرلمان الاوروبي القادمة في الربيع. انقسام اليمين مشكلة الحزب المحافظ في بريطانيا ، أن الكيان الذي يدعو للخروج من الاتحاد الاوروبي حزب الاستقلال يحصل على الاصوات من قلب المحافظين ويقفز في انتخابات فرعية أخيرة إلى المركز الثاني بعد حزب العمال ويطرد المحافظين إلى المركز الثالث واضاع من الحزب الليبرالي الاموال التي دفعها للمشاركة في هذه الانتخابات لعدم حصوله على النسبة المطلوبة لتأكيد أن هناك مصداقية شعبية له في تلك الدائرة . صعود اليمين في بريطانيا على يد حزب الاستقلال بزعامة نايجل فراج يزعج بعض السياسيين في بريطانيا وداخل الاتحاد الاوروبي ، نتيجة القلق من احتمال رؤية أعضاء هذا الحزب يدخلون البرلمان للمرة الاولى ، مما قد يربك المشهد السياسي البريطاني كله . فقد عاندت بريطانيا خلال تاريخها وخلال انتشار الاحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وصولهم إلى ساحة البرلمان ، لوجود الكتلة العمالية القوية في الشارع والنقابات وشكل خطابها التحدي لهذه التجمعات . حزب العمال لا يزال قادراً على المواجهة ، غير أن حزب المحافظين يتعرض لهزات قوية ، لأن المحتجين داخله والمتمردين هم الذين يشكلون قاعدة حزب الاستقلال الذي يشن حملات على الاتحاد الاوروبي ويطالب بوقف هجرة الاوروبيين الشرقيين ويطلب الطلاق الكامل مع الاتحاد داخل أوروبا.. وقد أغلق رئيس المفوضية الاوروبية العليا الباب أمام محاولات ديفيد كاميرون والذي يضع كل أوراقه فوق مطلب اقناع الاتحاد باعادة التفاوض حول ثوابت وحقوق التنقل والاقامة والعمل داخل دول الاتحاد. بريطانيون يهاجمون بريطانيا ذاتها مستفيدة من هذه الحقوق فإن أكثر من مليوني بريطاني يقيمون في دول الاتحاد مثل فرنسا وايطاليا واسبانيا . كما أن الشركات البريطانية تعتمد على السوق الاوروبي الذي تصدر إليه نسبة كبيرة من انتاجها . الاتحاد الاوروبي صيغة ناجحة في اطار المصلحة الاوروبية العامة ، لكن أصحاب القوميات ونظرية الانكفاء وغلق الابواب يضغطون في اتجاه دفع بريطانيا خارج عضوية الاتحاد ، وتلك مقامرة في غاية الخطورة ولا يمكن السماح بها كما يقول ايد ميليباند زعيم حزب العمال الذي يشكل كتلة قوية مع الحزب الليبرالي المؤيد لهذه الاستراتيجية . وحتى انعقاد انتخابات البرلمان الاوروبي والحكومات المحلية سيحاول العمال مع الليبراليين مقاومة صعود حزب الاستقلال الذي يتغذى وينمو ويكبر على حساب المحافظين واستمرار موجة قديمة وشرسة داخلهم معادية للاتحاد الاوروبي ، وهو الارث الذي زرعته مارجريت تاتشر المعارضة لأوروبا فيدرالية والمرحبة فقط بتعاون في مجال التجارة وحركة الاموال والاستثمارات دون التزامات تلغي كيان الدولة الوطنية كما كانت تقول .