"فيه نبرة رومانتيكية عذبة ما أسعده وأغناه بها إذا استطاع أن يحفظها علي نفسه، وأن يمنحها عمقاً وأصالة باختبارات حياته وصورها" بهذه العبارة المستشرفة لآفاق الإبداع الشعري، في منتصف السبعينيات، (1974)، وصف رائد حركة التجديد في الشعر العربي الحديث في الخمسينيات صلاح عبدالصبور، شاعرنا الراحل حلمي سالم، الذي أصبح فيما بعد أحد أبرز وجوه المشهد الشعري الحداثي، وأحد أبرز شعراء جيله من السبعينيين، وبرحيله في الثامن والعشرين من يوليو 2012، فقدت الحياة الثقافية والحركة الأدبية في مصر والوطن العربي شاعرًا وناقداً ومثقفاً كبيراً بملء مدلول الكلمة. فتجربة حلمي سالم الشعرية ممتدة وثرية، فقد بدأت منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، بديوان «الغربة والانتظار» 1972» بالاشتراك مع زميله الشاعر رفعت سلام، ثم توالت بعد ذلك دواوينه الشعرية المتميزة، ومن أهمها: «حبيبتي مزروعة في دماء الأرض» 1974 «سكندريا يكون الألم 1981 «سيرة بيروت» 1986 «البائية والحائي» 1988 «فقه اللذة» 1990 «الشغاف والمريميات» 1994 «الواحد والواحدة» 1997 «يوجد هنا عميان» 2001 «تحيات الحجر الكريم» 2003 «الغرام المسلح» 2005 « الثناء علي الضعف» 2007، وهو الديوان الذي احتوي القصائد التي أثارت جدلاً ثقافياً وقضائياً ودينياً بين الشاعر والشيخ يوسف البدري. والقصيدتان اللتان أثارتا الجدل هما:«الأزبكية» أو «شرفة ليلي مراد» وإن لم تكن هي مثيرة للجدل في حقيقة الأمر وإنما هي القصيدة الأخري التي عنوانها: «الأحرار» التي رأي فيها الشيخ خروجاً وتجديفاً في وجه ذات الله العلية. ولم يقتصر إسهام حلمي سالم علي الشعر وإنما تجاوزه إلي الإسهام الفكري، وكعينة علي ذلك يمكن التنويه بكتابه: «الحداثة أخت التسامح» كما يمكن التنويه بكثير من إسهاماته النقدية الجادة، بالإضافة إلي تأسيسه مع زملائه جماعة «إضاءة 77» الشعرية، وانتهاءً برئاسته لتحرير مجلة «أدب ونقد» التي تصدر شهرية عن حزب التجمع التقدمي الوحدوي، مما أهّله لأن تتوج الدولة كفاحه بجائزتها للتفوق في مجال الآداب عام 2007. ولم تكن الرومانتيكية التي تنبأ بها الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور هي الملمح الوحيد المميز لشخصية حلمي وشعره، وإنما هناك جانب جوهري آخر أشد أهمية، بل أكاد أراه يمثل أسطورة الشاعر الخاصة، وهو جانب النضال والثورة. إذ لم يتوان عن الاشتباك مع قضايا أمته الملحّة، وواقعها السياسي، بأوسع مدلول لكلمة السياسة، والذي يكاد يرادف الحياة بكل جوانبها، ولقد كانت بعض الأحداث الكبري التي حاقت بالوطن العربي في مسيرة سجاله الدامي مع العدو الصهيوني، خير كاشف عن هذا الجانب المشرق. فعندما اجتاحت إسرائيل لبنان صيف عام 1982، تباينت ردود الفعل إزاء هذا الحدث الإجرامي الكبير، بين الغضب والإحباط الذي أصاب الشعوب، والاستسلام والتخاذل اللذين واجهت بهما الحكومات والأنظمة الرسمية هذا الحدث الجلل، مما حدا بالشاعر اللبناني الكبير الدكتور خليل حاوي إلي الانتحار احتجاجاً علي هذا الصمت والتخاذل الرسمّي المهين، إذ خرج يصرخ في شوارع بيروت منادياً تلك الحكومات والأنظمة التي شاخت علي عروشها، والتحم اللحم منها بالكراسّي، ولما لم يجبه أحد أطلق النار من مسدسه علي رأسه. وكان موقف بعض المثقفين المصريين والعرب مشرفًا حقًا حينما ذهب عدد منهم ليواجهوا العدو الصهيوني وآلته العسكرية الجبارة بالأجساد، قبل أن تنضج تجاربهم الشعرية والفكرية المعبرة عن فداحة الحدث علي نيران التأمل الهادئة، واجترار المرارة علي مهل. وكان «حلمي سالم» واحداً من أولئك المثقفين المقاتلين. وبعد مرور أربع سنوات علي حصار بيروت واجتياحها، يصدر حلمي سالم ديوانه : سيرة بيروت» ليقدم من خلاله رؤية شعرية نافذة، تجسد في وجدانه ووجدان كل مصري وعربي تلك اللحظات المريرة الصعبة، وليعبر بالكلمة الشاعرة عن صمود المقاتلين الفلسطينيين والعرب في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، ممجدًا بذلك لحظة من اللحظات القمم في حياة الأمة العربية هي لحظة «المقاومة». ولم تقتصر قصائد الديوان علي رواية «سيرة بيروت» فقط، وإنما غطت مساحات الاحتفاء برموز النضال والمقاومة معظم بقاع الوطن العربي الملتهبة: فلسطين ولبنان ومصر. وبهذا يعد الديوان «أيقونة» شعرية تشتبه فيها الرؤية الفنية مع عالم المقاومة والنضال الذي تسعي إلي تمثيله. ولكن «المقاومة» وما يدخل في إطار حقلها الدلالي من مترادفات هي «ثيمة» شعرية قديمة، ولطالما جُعلت علي مر العصور محوراً للتمجيد والتغني، حتي كادت تستنفد كل أشكال التعبير. وحلمي سالم موغل في التجريب، بعيد المجازات، ولذا فهو شاعر حداثي بامتياز. ومن ثم يكمن التحدي الذي يواجه الشاعر الحداثي: إذ كيف سيتسني له الجمع بين «الالتزام» بقضايا وطنه، والمضامين الأيديولوجية التي يؤمن بها، و«الثورة» بابتكار أشكال نصية حداثية تتمتع بالصدق والفعالية والكفاءة الاتصالية؟ هنا لابد من عرض نموذج من الديوان لنري كيف استطاع الشاعر الملاءمة بين طرفي التعارض في هذا الإشكال. القصيدة الحوار والحوار، بوصفة تقنية فنية، يمنح القصيدة زخمًا، ويكسبها دينامية، لتشابك الأصوات فيها، تجليةً للرؤي المتباينة، ويمكن التمثيل لهذا الشكل بقصيدة: «يد ضئيلة: قوس» (حوار مع حجر فلسطيني): "قال لي حجر: أنا الزمان الحقيقي. والتواريخ الأُخَرْ هشيم، انحني، انكسر. قال لي حجر: خذوا شريعة الطريق مني: يد ضئيلة: قوس والمدي وتر. قلت يا حجر: فاخترق إذن أرائك الملوك والمكممين فت في عروش ذلك الدجي الطويل كرة من الجمر. قال لي حجر: فارقبوا إذن مجيئي ارقبوا إذن مجيئي سأسمي طلعتي : خطْر.. خطر.. خطر" والنظرة الكلية إلي بنية القصيدة تدلنا علي أنها جاءت تجسيداً لثلاث حركات: الحركة الأولي: تأتي من الحجر الفلسطيني معلنا عن زمنه الحجري الجديد وعن شريعته الجديدة. الحركة الثانية: أتت من «الصوت» المحاور للحجر (وقد بلغ ذروة إيمانه بالشريعة الحجرية الجديدة)، فهو يطلب منه ألا يكتفي برد العدوان الخارجّي، وإنما ينبغي أن يتجه بالتطهير أيضا إلي الداخل الفاسد. الحركة الثالثة: جاءت من الحجر: مبشراً ومنذراً، ومنهيا القصيدة في بنية دائرية تبدأ بالحجر وبه تنتهي: وقد أتاحت تقنية الحوار للشاعر أن يؤنسن الحجر، أي يجرد منه إنسانا يحاوره ويحتفي به. وقد اكتسب الحجر دلالة الرفعة والتشريف بنسبته إلي فلسطين، التي كان أطفالها أول من دشن الحجر وسيلةَ مواجهةٍ مع الدبابة الإسرائيلية، وقد صرح حلمي سالم بهذه الدلالة في ديوانه «تحيات الحجر الكريم» قائلاً: «مهنة المقلاع بدع خيالنا المحموم.. نمنحها إلي دول الصناعة علّها تهدي براءتها إلي المتحضرين». ثم يجري الشاعر عملية قلب دلالي جذري لمدلول الحجر، ويمنحه كينونة دلالية بكرا من خلال «التناص» الضمني العكسي مع موروثه الشعري القديم حيث الحجر رمز علي إيثار السلامة والأمان من حدثين الدهر، والطموح إلي الخلود السلبي، وهو ما يفهم من صوت الشاعر القديم: ما أطيب العيش لو أن الفتي حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم فيما صار الحجر الفلسطيني في رؤية حلمي سالم الشعرية رمزا علي الخطر ولزلزلة عروش فساد الداخل الرسمّي المتخاذل إلي حدّ التواطؤ. رحم الله "حلمي سالم"، فقد كان صاحب موقف في الشعر والحياة، في زمن عزّت فيه المواقف والرجال.