تظن ماكينة الإعلام الحكومي والدبلوماسية في مصر، أن قدراتها الفائقة علي التضليل في قضايانا الداخلية، يمكن أن تنفع بنفس القدر في قضايا خارجية استراتيجية مثل مشكلة المياه في حوض النيل . ولا ينسي الإعلام المصري أن يضلل نفسه أيضا بانتصارات بالغة الوهمية، لا فرق عنده بين "الفيفا " الكروية أو الإتفاقيات الدولية ! وقد أذهلني التشابه بالفعل فيما قيل عن هزيمة "الفيفا" أثناء تحقيقاتها ضد مصر، وما قيل عن غياب كينيا وبوروندي ليوم واحد عن توقيع اتفاقية مياه النيل الجديدة في كمبالا، باعتباره " انقساما خطيرا" لصالح مصر! تعالوا نبحث بعض الجوانب المهمة في هذا الموضوع ذي البعد الإستراتيجي لمصر ومخاطر شغل "الماكينة " إياها، والتي ندركها جيدا علي المستوي الداخلي، ونأمل أن تكون في الإدراك الشعبي الحقيقي بالنسبة لقضايا الخارج مثل مشكلة مياه النيل ...مكتفين بالإشارات المختصرة التي تتطلب -فيما بعد- دراسات مفصلة : - عن دور الأجنبي :يقوم الإعلام الحكومي علي الاتهام الدائم للحركة الديمقراطية أو المجتمع المدني أو المطالب الاجتماعية بأنها ذات صلات بأدوار أجنبية لتريح الحكومة نفسها من مسئوليتها المعروفة، بينما تعرف أجهزة الحكم المسئولة دور البنك الدولي في وضع مبادرة حوض النيل أواخر التسعينيات من خلال المؤتمرات الدولية حول المياه و"تسعيرها" وضبط البنك الدولي - باشراف أمريكي طبعا- لآليات تحديد أوضاع مياه النيل، كما يدرك الحكم دور إيطاليا وفرنسا أكثر من غيرهما في بناء السدود بأثيوبيا - وإن كان معظمها مازال لتوليد الكهرباء، ودون مراعاة لعلاقة مصر المخلصة للبنك والاكثر إخلاصا لمبادرة المتوسط باشراف الصديقين " ساركوزي " و"بيرلسكوني". وكأن كل ذلك - بالإضافة لما جد من وصول الصين واليابان، والتلويحات الفارغة من المضمون لإسرائيل، كل ذلك ليس تدخلا خارجيا جديرا بالعمل المبكر الدؤوب . ! وكأن سد تيكيزي مثلا الذي افتتح يوم توقيع الاتفاقية الإطارية، قد بني خلال" أسبوع المعركة" بالدعمين الإيطالي والفرنسي . - عن الاستقرار .. والتهديد بالقوة: أظن أن الشعارين معروفان جيدا علي المستوي الداخلي، والسؤال : كيف ساهمنا في حماية الاستقرار في حوض النيل؟ ألا تسأل الدبلوماسية المصرية عن دورها الذي كان واجب التأثير، من أجل تحقيق الاستقرار، والاستفادة من معني القوة الإقليمية في مسائل تعرفها جيدا في دارفور التي تكتفي فيها بمشاركة القوات الدولية، والصومال الذي بدونا "متفهمين" للدور الأثيوبي علي أرض الدولة العربية، بل والحرب الأثيوبية الأرترية التي كنا فيها " متفهمين " "للحياد"، وذلك كله مع غياب عن محادثات واتفاقيات "نيفاشا" لجنوب السودان ...هل كان كل ذلك هو القدر الكافي لتمثيل قوة مصر الإقليمية؟ - السلام والمبادئ الدولية : عرفت مصر السلام المتين مع إسرائيل بنتائجه المعروفة رغم الرفض الداخلي المتصاعد، وعدم سلام الحكم مع القوي الديمقراطية، لكنها تعرف جيدا المساعي الدولية السلمية مع المبادرة الرباعية، رغم التخاذل الأوروبي، والآن الأمريكي- كما تعرف نفس المساعي في العراق . ويفرض الحكم " جوا سلميا" كاملا في الداخل عبر أجهزتها الإعلامية والدبلوماسية الحاكمة، فإلي أي حد شغلت الأجهزة نفسها بالأبعاد الدولية والقانونية لوضع مبادرة حوض النيل التي صمم البنك الدولي عليها بديلة للعمل في إطار التنظيم الدولي، ومشروعات العمل عبر الأممالمتحدة وليس البنك . و قد كان ذلك سائدا عند إقامة مجموعات البحوث الهيدروميترولوجية 1968، و"تيكونيل" في أول التسعينيات، والتي كانت مشروعات مشتركة استقلالية قائمة علي مبادئ السلام الدولية فعلا في أحواض الأنهارفي إطار المؤسسة الدولية . وليس مصادفة - مرة أخري- أن تأتي مشروعات "البنك" مع التكيف الهيكلي وتنظيم مياه الحوض وفق مبادئ "دبلن" ولاهاي" حول معاملة المياه كسلعة، وإخضاع استثمارات السلام في المنطقة للاستثمارات الدولية بدلا من مشروعات التكامل التنموية المشتركة. - افتقاد دبلوماسية العلاقات الناعمة :مثلما لايعرف نظام الحكم فلسفة "التفاوض الاجتماعي "، أو "السياسي " في الداخل فإنه لم يعرف فلسفات القوة الناعمة في العلاقات الخارجية ونفهم بالطبع أنه لايعرف إلا فلسفة "القوة"...فقط كلما أمكنه ذلك، لذلك فبقدر ما نلاحظ نهجه أو ميله لاستعمالها في الداخل، فإن الإعلام لايستطيع إلا الصراخ، والتلويح بها في موقف خارجي حساس مثل التعامل مع دول حوض النيل !وننسي أن القوة الناعمة -في بلد آخر، ومع حكم آخر- كان يمكن أن تعمل في إطار متعدد الجوانب للسلب والإيجاب في العلاقات مع دول الحوض، قد تكون مجاملة أثيوبيا في العقد الأخير، مختلفة عن طبيعة علاقاتنا بها خلال معالجتنا لأزمتها مع أريتريا والصومال، كما أن علاقاتنا لفترة مع "موسيفيني"،غيرها من قبل مع عيدي أمين، وعلاقاتنا السابقة مع حركة التحرر الكونغولية، مختلفة عن علاقاتنا مع "موبوتو"، بل إن علاقاتنا في كينيا بدءا من "أودنجا " الأب الذي كان مكتبه بالزمالك في القاهرة تعني شيئا آخر مع الابن، الذي يرأس حكومتها حاليا. وهكذا يحتاج الموقف لمفهوم ديمقراطي وتفاعلي في العلاقات الخارجية يختلف تماما عن التجاهل الذي ساد بهذا الشأن في حوض النيل . ولا يجدي هنا التضليل من قبل الحكم،ولا الصراخ من قبل الإعلام وبعض أطراف المجتمع الشعبي نفسه في معالجة الموقف. إننا نحتاج لبناء منظمة فاعلة بين دول الحوض مثل جميع المنظمات الإقليمية القائمة في القارة والتي تغيب عن معظمها - ونحتاج لاقرار مبادئ حول المياه في الاتحاد الأفريقي شبيهة بمبادئ الحدود الثابتة التي قررتها منظمة الوحدة الأفريقية ، ونحتاج لوضع علاقاتنا بأفريقيا ضمن سياق علاقاتنا الدولية الغارقة في الحوض الأوربي والأمريكي باسم المتوسطية والشرق أوسطية، ونحتاج لحركة شعبية ديمقراطية تلتقي مثيلاتها في دول الحوض وعلي المدي الطويل الذي تستغرقه عادة مشروعات المياه نفسها، وقد يغري ذلك بالتنسيق مع أطراف عربية أو مراجعات جادة مع أطراف آسيوية ( الصين- ماليزيا-....) و ذلك قبل أن نعاود بحرص قراءة معركتنا السابقة مع البنك الدولي.