فى عام،2004 تابعت على مدى ليلتين حكايات لفرقة (البديل) لصاحبها محمود أبي دومة مؤلفاً ومخرجاً، وبعنوان ( نوستالجيا). وأردفت بليلة ثالثة ... أى أننى شاهدت إحدى الليلتين مرتين. وفى 2005 جمع الكاتب الحكايات فى إصدار باللغتين العربية والإنجليزية بذات الاسم، وكانت الترجمة للأستاذة سارة عناني. وفى عام 2014 جمع الحكايات القديمة، معظمها أعاد كتابته، بجديد خالص وجامح فى مشروعه الإبداعي الفريد، وعنونها (عتب البيوت). ما أعجزتني كتابة كما أعجزني فعل أبي دومة هذا أو نصه، الذى تتعدد عتباته، وأبوابه، بل سراديبه الممتدة لعمق أيامه وأيام جده سيدي سليمان الكبير. عتبة الحكي الشفاهي الوالجة إلى وجع الموال والسيرة، وعتبة القص القصير، وعتبة زمن الرواية المعتق، وعتبة المأساة التراجيدية. مفترق طرق أشبه بحياته بين موطن النشأة الجواني والروائح الأولى فى مسقط رأسه بالصعيد، وموطن الغواية والتعلق والإقامة فى الإسكندرية «غريزة فى ابن آدم انه يهاجر لفوق»، ومحطات بالقاهرة. بين خاطف، ولاجيء مقيم، وممرات حنين جارف لموطئ الذكرى. بين سرد حميم لسيرة ذاتية، وحقائق بيئية أليمة وساحرة تعج بالمفارقة، ومنبت صالح لأسطورة تجنح بالخيال من فرط جموحها كالليالي الألف. وربما تكون البينية الأخيرة هي مرجع التمويه الأكبر فى طبيعة النص المتعدد. فعلى الغلاف صورة جدته حقيقةً، والعنوان عتب البيوت، أحفاد سيدي سليمان الكبير، جده. ويأخذك حضور البيت والمكان، وحيلة التكرار أحياناً سواء الحدث أو الصيغة اللغوية المسبوكة المتكررة حتى لتظن أن الأحداث منحوتة فى الجبل والنخل بقسوة دون وسيط، أو أن لزمات السرد مستعارة من لغة البيئة وإيقاع الحكي بها بغير صنعة ماهر. والحق أقول إنه بانتهائي من آخر حكاية أو قصة، (ليلة)، وجدتني مشدودة إلى الرسالة الأولى إلى عمته عيشة بعد موتها بسنوات، فيما يشبه مقدمة الكتاب،إذ يوشك أن يصدق أنه آن الأوان، فلربما دفنها بداخله مما جعله يسطر الرسالة. ذلك أنه يقول مداعباً إياها قرب نهاية رسالته: «لسه صوتك عالي، ولا الموت قدر يسكته ؟!» وينطبق هذا الوصف على عمته عيشة كما ينطبق على ليلة. ويرِد معنى الصوت فى الحكايتين مختلفاً. فبينما عيشة كانت الحكاءة الماهرة كان الصوت الذي يتجلى لليلة هو نداء الحياة والتجدد والعشق مهما تقدم بها العمر. وفى غير موضع يزاوج الكاتب بين فعل الحكي والحياة وطاقتهما الخلاقة. فأي مكر إبداعي هذا وثقة لاعب ماهر !. بين مسرح وحكي، وشفاهة وكتابة، وعامية وبناء فصيح، بينما يتساءل الخبير كيف حمَّل الكاتب الحكّاء لغة السرد العامية كل هذا العمق والزخم الأصيل، وأخذها من واقعيتها إلى شعرية سردية ومأساوية. حتى الحس الفكاهي كأنه رفرفات طير مارة بشباك حزين ومترقب "الموت على أعتابه". ومن عجب هذا العمل أيضاً أنه رغم بينياته تستقل كل تحربة تلقي له استقلالاً جمالياً حتى لكأنه خلق لأجلها. ففى المسرح تواجهك الأبواب العتيقة بخشبها الثقيل المنيع وحديدها المشغول المتجمل تتخلله إضاءات وانكسارات ليالٍ ونهارات – لن تصدق أبواب البيت الكبير فعلاً ! -وإيقاعات أداء الحكائين بين تباعد وتقمص تعزف عزفاً نافذا ً دقيقا، ولفتات أياديهم ورءوسهم ونظرات عيونهم المعلقة فى ختام المقطع أو الحكاية تلتقط طرف خيط الموسيقى التصويرية الصاعدة. حوار الضوء والنغم والصوت والإيماءة. حكي تماهى فى الحدث وتوغل فى أشواق السرد وحنينه بداخلك حد الصمت الذي ليس بعده كلِم. كذلك كانت تجربة القراءة. بعد كل حكاية تأمل طويل فى فرنسا ودولت ووصال، عيشة وليلة، عيسى والشيخ بكر، كحال العيون، ضاحي وبلال، بحرة بنت عبد الله.. مازلنا على الأعتاب، نطرق الأبواب على استحياء، فالبيوت أسرار، وللإبداع حُرمة.