فى السابع والعشرين من مارس، يوم المسرح العالمي، من هذا العام قدمت فرقة (المسرح البديل) على مسرح الهناجر عرض افتتاح اليوبيل الفضي للمسرح المستقل. قدمت من تأليف وإخراج محمود أبي دومة حكايتين من حكايات (عتب البيوت) هما: (دولت) و(عين بتضحك وعين بتبكي). كان الانطباع الذي ساورني مثيراً للتأمل. ذلك أنه بتوالي الحكايتين أصبح العرض ليلة حكي قابلة لتغيير مكوناتها من ليلة إلى أخرى، خاصةً مع اختلاف مذاق واتجاه كل حكاية حيث يحيط الأخيرة بعدًاً فلسفيًاً لأسر الدنيا والخروج منها، وانتظار الإشارة الغامضة للرحيل من الضيافة، مدعماً بخفة روح عيسى الذي يبدو وكأنه ممن " يعبرون إلى الرؤيا " بالتعبير القرآني، فيفيض بتنبؤاته رزقاً على الشيخ بكر الذي استضافه لسنوات طويلة، وتتناثر الدعابات فى طي الحكاية. ويبدو حضوره وغيابه كأنه حلم سرى فى بيت الشيخ بكر يفسر الخير العميم، والبركة التي حلت على المكان وأهله فى ارتباط آخر بالعتبة عندما يعبرها قدم الخير مع التباس فني فى دلالة الضيافة ومعنى الأسر ما بين بيت الشيخ والدنيا بأسرها. أما حكاية (دولت)، الأولى فى العرض، فتأثيرها مأساوي طاغٍ. عشق دولت الذي أفضى إلى موتها أو مقتلها، إذ يحمل تخطيًاً للحدود. " أصل الشرف يا بنات غالي ". و لا يضيف تعدد روايات البنات عن رحيلها فى ريعان الشباب قسوة أو يقلل حزناًً، بقدر ما يشير تعدد ‘وصفات موتها' إلى ذوبان السر الدفين فى حوائط البيت القديم. فلو ان العرض اكتفى بتلك الحكاية الواحدة لتشبع المسرح بسرد مأساوي أفضى بسر مثقل للقلوب، تام وكامل. تذكرت هذه العلاقة الدقيقة بين احتمالات الفعل المسرحي فى الليلة الواحدة وأنا أختتم قراءة (عتب البيوت) بحكاية (ليلة)، آخر الحكايات والتي تستحوذ على أكثر من ثلث الكتاب، وتتخطى المائة صفحة. ذلك أن العلاقة بين (ليلة) وباقي حكايات الكتاب السابقة من جهة، وانفرادها بذاتها ممتدة ووارفة من جهة أخرى بها شيء من هذا الانطباع المسرحي المشار إليه، والاحتمالات المتخيلة لتوظيف الحكايات. ومن جمال هذا العنوان (عتب البيوت) حمله لدلالات متعددة. عتبة الدخول لحياة جديدة، وعتبة خروج، موتاً كان أو فراقا. لكنه أيضاً يحمل معنى العتب، أي اللوم. فإذا كانت البيوت تعج بآلام وشكاوى المحروقة، والمقتولة، والمتروكة تحت الأنقاض، وتئن تحت وطأة حدود الصعيد والنسق الذكوري، بخيره وشره، والذي يهيمن على البيت ويحدد عتبته، فإن ليلة تبدو وكأنها ترد بعتباتها المتعددة فى زيجاتها الخمس المتوالية على كل قهر لإرادة وأحلام النساء وأشواقهم فى الحكايات. كأنها ترد بعرق الصبا الذي لايشيخ فى جمالها، والذي هو ‘ فى الصعيد محنة'، وامتلاكها لزمام أمرها وقرارها فى قلبها وجسدها، باختيارها للرجال الذين تقترن بهم الواحد تلو الآخر على كل منظومة الامتثال للتقاليد حد الموت ومخزون النساء من الوجع والقهر. كذلك يبدو بوصولنا ل (ليلة) أننا نكون قد ألممنا وعايشنا عالم أبي دومة الصعيدي بحدوده ومآسيه، مكارمه ودعاباته. مهنه ومواسمه وفيضانه، خياله الخرافى وسبيكته الإيمانية المتداخلة بعمق تاريخي عتيد. أصبح المسرح مهيئاً لاستقبال ليلة. يبقى أن نلحظ أن مفتاح الولوج لعالم (عتب البيوت) يخص أبواب الرحيل بخاصة. وكأن اللحظة الفارقة التي خطى فيها الكاتب عتبة غرفة العمليات وكاد قلبه أن يفارق واتته الجرأة ليلج تلك الأبواب وعتبات الخروج من الحياة ويقرأ فى كتاب الصعيد " اللي ما تقراش منه كلمة "، وتراثه الجنائزي. فما من قصة إلا وتتمحور حول رحيل وموت أو اندثار، ولو كان غير البشر مبنى أو معنى أو حتى مهنة. تنفرد (ليلة) ببنائها الطامح إلى خلق أيقونة مأساوية مقدسة، كأنها نصف بشر نصف إله، مدفوعة بالحرمان فقراً وفراقاً للأحبة، أباً فأخوات فأماً، ملاحقة بصورة الفيضان ناشراً عظام الموتى والتوابيت لأجيال فى رواية المراكبي الذي دفنت معه أمها، آخر الحبايب، وحيدة. مدفوعة بملاحقة الموت، موعودة بالحياة المؤججة فى جسدها ذي الجمال المحير الخالد، تلد من البنين عشرة وتتزوج من الرجال خمسة. لكن الكاتب ينشئ من الحدود الاجتماعية المتجذرة فى الصعيد كدين ما لا يصح لبطل تراجيدي أن يتخطاه. فبزواجها الزيجة الرابعة فالخامسة كانت تخطت الحد المسموح به. فرجل على أعتاب الموت ورجل يصغر أبناءها. بل إن نقطة ضعفها، الابن الأكبر والأقرب إلى قلبها، والذي أرضعته حتى مشارف الشباب لتورثه رحمة، هو الذي يخطط لتركها وحيدة فى الصحراء القاسية، تلقى مصيرها مسلسلة بالحديد. بل لا يفوت الكاتب فكرة المكان والعتبة. فقد أقسمت ألا تخرج من بيتها الثاني إلا على ظهرها، فإذ بها بتخطيها عتبته مرة فثانية كانت تنسج مصيرها المأساوي وتسارع إلى باب رحيلها.