أماني محمود..امرأة لم تتجاوز الثلاثين ورغم ذلك تقيم في دار للمسنات, أطفالها الأربعة ليسوا أيتاما فوالدهم شابا صحيحا يملأ الآفاق ضجيجا, ولكنهم يعاملون معاملة الأيتام في نفس الدار التي يقيمون بها مع والدتهم .. الظروف التي آلت بهم إلى هذه الإقامة الغريبة يبدو أنها ستمتد شهورا طويلة، رغم أن المسئولين عن الدار وافقوا على إستضافتهم بصورة مؤقتة .... الفشل الكلوي لطفليها من خلال حواري مع الأم الشابة وقفت على تفاصيل القصة المأساوية لهذه الأسرة البسيطة التي جاءت من سوهاج إلى القاهرة منذ شهور.. تقول الأم: تورم جسد ابنتي تغريد (8 سنوات) فجأة وبدأت تشكو من شدة المغص ,فذهبت بها إلى المستشفى الجامعي بسوهاج ليتم التشخيص على أنها "نزلة معوية"، وبعد المداومة على العلاج لمدة 15 يوما تبين خطأ التشخيص وأنها تعاني من الفشل الكلوي, وتم تحويلي إلى مستشفى أبو الريش للأطفال. وقتها طلبوا مني إجراء التحاليل لإخوتها للتأكد من خلوهم من نفس المرض، وكانت الصدمة الكبرى عندما أظهرت التحاليل إصابة ابني كريم "10 سنوات " بنفس المرض هو الآخر. تواصل أماني: بخيبة الأمل رجعت إلى البلد لمواظبة جلسات الغسيل لهما هناك, وبعد شهرين من المواظبة بدأت حالتهما تسوء لعدم توفر الأجهزة المناسبة لسنهما وانسداد كافة الأوردة بجسم تغريد حتى أصبحت في حاجة ماسة لعملية زرع كلي في أقرب وقت. هددوني بالقتل وتتابع, أطلعت أهلي وقتها بنية التبرع بكليتي لها فما كان فمنهم إلا أن قالوا لي " سبيهم يموتوا, مش ربنا اللي عاوز كده" فقلت لهم: أموت أنا الأول ولهم رب كريم, فهددوني بالقتل أنا وابنتي إذا ما تبرعت لها بكليتي. وبلا ندم تقول : وقتها كنت قد حسمت موقفي، وفي 25 يناير 2011 أخذت أولادي متجهة بهم إلى مستشفى أبو الريش وإلى مصير يشوبه الغموض، وكل ما أفكر فيه فقط هو إنقاذ تغريد وكريم ومساعدتهما بكل ما أملك. وفي المستشفي ، ومازال الكلام على لسانها، أقمت 4 شهور متواصلة لإجراء التحاليل والفحوصات والتجهيز للعملية، حتى أن بعض الأطباء- نتيجة ظروفي الصعبة- كانوا يجمعون لي التبرعات ويعطوني مصروفا شهريا. وأثناء تلك المدة بررت إقامتي في القاهرة لأهلي بجلسات الغسيل، وعندما ظهرت النتيجة بتوافق الأنسجة أجرينا العملية والحمد لله. لم تتمالك الأم دموعها وهي تحكي عن فترة الإعداد للعملية وتجهيز الأوراق بنفسها دون أي سند أو ونيس, فتقول: عشت مرارة الأيام وحدي وخاصة بعد كتابة الإقرار بتحملى مسئولية إجراء العملية لي ولابنتي حتى كان يوم إجراء العملية, هذا اليوم الذي لا يمكن أن يمحى من ذاكرتي, نتيجة إحساسي بالضياع والخوف على أولادى , وتم تجهيزي للعملية أنا وتغريد, وكان كريم وقتها في جلسة غسيل وإسراء الطفلة الأصغر كان يوم فطامها. وتتابع : تركتها وأختها مع الممرضات بالخارج، ودخلت متوكلة على الله وأنا لا أعلم إن كنت سأراهم مرة أخرى أم لا. قسوة أب بعد هذا الكلام كان من البديهي أن أسألها عن زوجها وأين هو من هذه القصة التي لم يلعب فيها حتى دور الكومبارس , فردت بمشاعر ممزوجة بالحزن والخجل: تزوجت من ابن خالتي الذي اكتشفت عدم قدرته على تحمل أدنى مسئولية, حتى اضطررت للإقامة بأطفالي بحجرة صغيرة في بيت العائلة ووالدة زوجي هي من كانت تتحمل إطعامنا, وكنت أعيش وأقول الحمد لله بالرغم من معاملة زوجي غير الآدمية لي, حتى علمت بمرض تغريد وكريم وبدأت أشعر بالحاجة إلى المصاريف اللازمة للتنقل والسفر والعلاج دون أي سند منه أو رغبة في المساعدة, حتى أنه لم يكلف نفسه السؤال على ابنته بعد العملية. عدت بها مرة أخرى للحديث عن العملية فقالت: أحسست بوحدة قاسية لعدم سؤال الأهل أو محاولة زيارتي أنا وطفلتي التي خرجت للتو من عملية زرع كلى، والذين اكتفوا بتهديدي والتشديد على بعدم العودة إلى البلد لمخالفتي أوامرهم, تركت كل هذا جانبا وبدأت أفكر, أين أذهب بأولادي؟ ومن سيتولى الإنفاق علينا؟ فأنا مازلت مريضة وكذلك تغريد, وكريم لابد من مواظبته على جلسات الغسيل..! وظللت في حيرتي حتى نصحتني إحدى المريضات بالاتصال بجمعية رسالة وعرض مشكلتي عليهم، ولكنهم رفضوا إقامتي بأولادي, حتى أوقعني الله بأولاد الحلال من المتطوعين الشباب لعمل الخير وبعد معرفتهم بقصتي توسطوا لي في أكثر من دار للمسنات أو الأيتام للإقامة دون جدوى. ثم كانت هذه الدار الوحيدة التي وافقت على إقامتي بها كضيفة دون أي مقابل مادي حتى تنفرج مشكلتي. لماذا لا يتبرع أبي بكليته "أطفالي يدركون جيدا ما يدور حولهم ويشعرون بعدم الاستقرار في حياتهم ".. كان هذا ردها عندما سألتها عن مدى تقبل أطفالها للإقامة بدار للمسنات لتواصل : كثيرا ما يسألوني متى سنعود للبلد والمدرسة ولماذا نقيم في هذه الدار؟.. حتى أن كريم دائما ما يقولها لي: " لماذا لا يتبرع أبي بكليته لي كما تبرعتي أنتي بكليتك لأختي؟ "، وعندما يشتد عليه التعب يعاتبني لأنني تبرعت بكليتي لأخته ولم أتبرع له.. ولا يعلم أنني على أتم استعداد لأن أتبرع له بالكلية الأخرى لو كان ذلك جائزا . وتتابع : بحكم سن أطفالي كثيرا ما تعلو أصواتهم مسببين الإزعاج للمسنات, ولتفادى ذلك أقوم برعاية المسنات الرعاية الكاملة وتمريضهن بداية من انتهاء عمل العاملات بعد الثالثة عصرا, فمن تمرض أتولى رعايتها وتمريضها, ومن تحتاج إلى الاستحمام أو تبديل ملابسها أساعدها وأجهز لهن العشاء ولا أبخل بأي مساعدة . قلة الحيلة وقبل أن أنهي الحديث معها حاولت التعرف عما تخطط له ولأطفالها, فقالت: كل ما استطعت عمله هو رفع قضية نفقة على زوجي رغم التهديدات المستمرة بالتنازل, ولا أنكر أنني فكرت في العمل بأي مهنة لتوفير مصروفات أولادي، ولكن كيف لي أن أعمل وحالتي الصحية لم تستقر بعد؟ ومن يقبلني للعمل وأنا أذهب بكريم لجلسات الغسيل كل يومين، وإن اشتغلت هل سيكفي العائد مصروفات الحضانة التي على وقتها أن أضع أطفالي فيها. وتنهي أماني قائلة: الحمد لله على كل حال... لكني أتمنى أن استقر بأبنائي في مكان نعيش فيه، وأن أرى كريم معافى هو الآخر, ثم تعود وتتساءل: ولكن حتى إن وجدت المتبرع, فأين المال؟ وكيف لي بتسديد ثمن الكلية الذي يتجاوز الثلاثين ألف جنيه غير التحاليل والأشعة اللازمة للمتبرع...!!