يجب ألا تتعدى المساعدة تمكين من لجأ لى للحصول على حقه القانونى عندما يواجه معوقات وروتينا أو إجراءات تبدو ظالمة فى حقه ما أعظمها تلك الدروس التى استوعبتها طوال حياتى الصحفية عندما بدأت أولى خطواتى فى دروب مهنة البحث عن المتاعب. هذه الدروس التى لم تخرج عن كونها أخلاقيات ومبادئ للعمل هى التى صنعت لى كثيرا من النجاح. ملخص هذه الدروس هى كيف أكسب ثقة واحترام من أتعامل معه بحكم عملى سواء كانت هذه الشخصية رجل قضاء أو ضابطا أو حتى مجرما ووصولا إلى المسئولين. أول درس كان هو احترام آدمية الإنسان تحت أى ظرف وجد فيه. وكانت قضية جثة قتيل سينما الزيتون فى الثمانينيات هى الدرس حيث تسببت قطعة شوكولاته أهداها الرائد عبد الوهاب هاشم لابنة مسجل سرقات فى الكشف عن جريمة ظلت مجهولة لمدة 10 سنوات كاملة. كان الضابط قد تولى رئاسة مباحث شرطة الزيتون وكالعادة يعقد أى رئيس مباحث جديد اجتماع تعارف مع المرشدين السريين والمسجلين بالدائرة يهدد ويتوعد من لا يتعاون معه أو يمارس أى نشاط إجرامي، إلا الرائد هاشم فقد اختصر الطريق قائلا إنه يريد رجالة يتعامل معهم. وفى الصباح كان الضابط يقوم بالمرور بشوارع المنطقة عندما وقعت عيناه على أحد المسجلين ممن حضروا اجتماع الأمس. كان يقود دراجته وأمامه طفلته ووقف مكانه رهبة منه، ولكن الضابط فاجأه بتكليف مخبر معه بشراء شوكولاته قدمها بنفسه للطفلة وهو يقبلها ثم عاود مروره بالبوكس. فى المساء أخبره جندى مكتبه بأن أحد المسجلين يطلب مقابلته والذى لم يكن سوى والد طفلة الشوكولاته. وفور دخوله قال له ما فعلته مع ابنتي، أيقظ الإنسان داخلى وسوف أرد لك معروفك.. ليسرد له قصة زميله الذى يعمل حاليا كشاف زبائن سينما الزيتون فى زنزانة السجن. وقد سبق وحكى له كيف اتفق مع عشيقته على قتل زوجها ليخلو لهما الجو، حيث استدرجه للسينما وسهرا بعد انتهاء عرض الحفلات وتحت تأثير المخدرات تمكن من قتله وإخفاء جثته فى النفق الذى تهبط به ستارة السينما. اصطحبه الضابط للسينما وتم العثور على هيكل عظمى للجثة. وتم القبض على القاتل والذى اعترف بتفاصيل جريمته التى ظلت مجهولة 10 سنوات وفضحتها قطعة شوكولاته! استوعبت درس احترام آدمية أى إنسان موضع اتهام أو مدان. وأصبح لى أسلوبى المختلف عن زملائى عند إجراء أى لقاء مع نزيل تخشيبة أو سجن مستغلا علاقاتى الطيبة بالضباط، فأطلب للمتهم «شاي» وأقدم له سيجارة حصلت عليها من الضابط ولا أجعله يجلس على الأرض بل على كرسى بجانب. كنت لا أدخل فى سماع اعترافاته مباشرة، ولكن أحدثه أننا كلنا معرضون لما يمر به وأننى أقدر الظروف التى دفعته لجريمته لينطلق بعد ذلك فى الكلام دون أى عائق أمامى فى الحصول على ما أريد. اخسر خبرا.. واكسب أخبارا كثيرة فى بداية حياتى كصحفى تحت التمرين أتيحت لى فرصة حضور أحد اللقاءات التى يعقدها الكاتب الكبير الراحل الأستاذ جلال الدين الحمامصى بمكتبه بجريدة الأخبار للصحفيين الشبان. سمعته وهو يقول إن الصحفى يمكنه أن يخسر خبرا أو أكثر للحفاظ على ثقة مصدره به، ولكنه سيحصل على أخبار أكثر وأفضل مما خسره، قائلا اخسر بيضة ولكن احتفظ بالدجاجة كلها التى ستبيض لك على الدوام. نفعنى هذا الدرس فى حياتى الصحفية، فقد كنت كثيرا ما أتجاوز عن نشر أخبار ربما تسيء لمصدرى فى شخصه أو عمله. وفى المقابل أصبحت سمعتى بين رجال القضاء والأجهزة الأمنية المختلفة محل احترامهم وثقتهم، فلم يكن هناك محظور أو ممنوع للاطلاع عليه من تفاصيل الوقائع محل التحقيق. لم تكن إتاحة الاطلاع بسبب الثقة فقط، ولكن لإدراكهم أننى واعٍ بما يصلح للنشر دون الإساءة أو التعارض مع الصالح العام. فكم كانت هناك من الأسرار الكبيرة التى ربما لا يصلح نشرها حتى يومنا هذا. حدث ذلك عندما كنت أتولى تغطية نشاط نيابة أمن الدولة العليا وكانت تترك لى ملفات القضايا تحت التحقيق لتصفحها وما بها من أسرار خطيرة تناولتها التحقيقات ولكن لم أسرب ولو مرة خبرا يتعارض مع المصلحة العليا. وهذا الأمر كان يتكرر معى فى إدارة مباحث أمن الدولة (زمان). كنت أحصل على ما لا يعرفه الآخرون من الزملاء.. مثلا كنت الصحفى الوحيد الذى جلس فى قسم الشئون العربية فى فرع الجيزة بشارع جابر بن حيان حينما اطلعت على أخطر الملفات. ولن أنسى حينما داعبنى الصحفى داخلى لطلب نشر ما رأيته، فجاء رد المسئول الأمنى الذى تدرج فى أعلى مناصب الدولة فيما بعد، قائلا بحدة: ليست مصر التى تفعلها.. لقد اطلعت على هذه الملفات بصفتك الصحفى الذى نقدر أخلاقياته والذى يجب أن يكون لديه ما خفى من معلومات للعلم بها. مسافة فاصلة بين العمل والصداقة كثيرا ما تتطور العلاقة بين الصحفى ومصادره من المسئولين إلى درجة أكبر من الإنسانية والمودة، ولكن الصحفى الناجح هو الذى يعرف كيف يفصل بين العلاقتين خاصة أمام الجميع. وكما يقولون «لكل وقت حديث» وربما تتضح أهمية الفصل فى العلاقة مع رجال القضاء حيث يكون احترام هيبتهم وهيبة مراكزهم رقم واحد فى التعامل. كنت فى مطلع شبابى مرتبطا بعلاقات صداقة ومودة مع العديد من رجال النيابة العامة. ولكن كلامنا رسمى للغاية ولكن بعيدا عن العمل، كانت تسمح العلاقة بالمشاركة فى فريق لعب كرة قدم وتناول الطعام معا، ولكن عند العودة لمواقع العمل تعود العلاقة رسمية فقط، هو رئيس نيابة وأنا صحفى يحكمنا الاحترام المتبادل. لا أنسى موقفا مشابها حينما كنت أغطى مؤتمر الجريمة الذى عقدته الأممالمتحدة فى ڤيينا فى التسعينيات. على بوابة الدخول لمقر المنظمة الدولية كانت تستقبلنى ضابطة تأمين بوابة الدخول. كانت رائعة الجمال.. وطبقا للتعليمات أعلق فى رقبتى بطاقة عضوية المؤتمر وأخرج كل ما هو معدنى قبل اجتياز البوابة. وحدث أن وجه لى محمد الأسود رئيس تأمين مقر المنظمة فى ذلك الوقت، وهو بالمناسبة شقيق زميلنا الراحل سيد عبد العاطى رئيس تحرير الوفد الأسبق، الدعوة على العشاء وبحضور ضابطة التأمين النمساوية قضينا سهرة جميلة. وفى الصباح اعتقدت أن سهرة الأمس ستعفينى من إجراءات الدخول الرسمية.. فاقتربت من البوابة بدون تعليق البطاقة ودون إخراج الأشياء المعدنية. وكانت الطامة الكبري، فقد ظهر الوجه الآخر للضابطة لتصرخ فى وجهى بحدة: أين بطاقة تعريفك؟ صرختها جعلتنى أنتفض متوترا متوجها مباشرة لمحمد الأسود فى مكتبه، وحكيت له ما تعرضت على يد صديقة السهرة.. ليجيبنى فورا افصل ما بين علاقة العمل والصداقة، خاصة أن الكاميرات ترصد تصرفاتها وربما تخسر وظيفتها إذا تبين تقصيرها فى إلزامك باتباع الإجراءات السليمة. كلمة الشرف احفظ مصدرك لا يسأل الصحفى عن مصدره.. تلك أولى المبادئ القانونية التى تعلمناها، ولكن الأجمل والأهم أن يكون الصحفى أمينا فى العمل والالتزام بها.. كنت حريصا ليس فقط على أمانة النشر واكتساب ثقة من أتعامل معهم من المسئولين، ولكن أيضا بسرية من يساعدنى ويمدنى بالمعلومات المهمة عندما يكون هناك تضييق على نشرها لأسباب تتعلق بالصالح العام. وساعدنى ذلك كثيرا فى التميز والانفراد بأخبار وموضوعات كان مصدرى فيها مسئولين بأجهزة ذات أهمية خاصة وجدوا أن تسليط الضوء على انحرافات مسكوت عنها يعد جريمة فى حق الوطن، ولكن اكتشاف أمرهم سيلحق بهم أشد الضرر. أتذكر واقعة مهمة ضبطتها شرطة السياحة منذ سنوات بعيدة جدا ونظرا لطبيعة الشخصيات المتورطة وعلاقاتهم القوية بمسئولين رفيعى المستوى فى وزارة الداخلية أحيط الأمر بسرية تامة حتى يتم التصرف فيه، ولكن أحد قيادات الشرطة رفض الأمر وسرب لى تفاصيل الواقعة التى نشرتها فى «أخبار اليوم». وجن جنون الوزير وقتها وأمر بمعرفة الخائن من بينهم ودارت الشبهات وقتها حول مصدري، لكن دون دليل ضده سوى اعترافى عليه.. سألوه ورفض كشف الأمر، وتحدث معى متوترا فى غاية القلق وكنت عند وعدى له، فلم أخضع لكل الإغراءات المتواصلة لكشف شخصية مصدرى ولم يكف هؤلاء إلا بعد أن هددت بأننى سأنقل ما يدور إلى رئيس تحرير الجريدة الذى كان يهابه الجميع. ورغم موقفى هذا، إلا أننى اكتسبت حب واحترام الجميع وفى مقدمتهم الوزير.