اختلف ابنى شرحبيل بن حسنة، وهما عبدالرحمن وربيعة حول موضع لبنه.. أى منزل يقيمانه فى مدينة الفسطاط، بجوار مسجد عمرو بن العاص فقرر أبوذر الغفاري الخروج من مصر تنفيذا لأوامر الرسول له بذلك، "إذا ما اختلف على موضع لبنة فأخرج منها"، وخرج تاركا خلفه منزله الذى بناه فى الفسطاط وكان يسمى "دار العمدة.. ذات الحمام".. وهو الذى جاب مصر من حصن بابليون وحتى الإسكندرية التى أقام بها في منزل كان يقع خلف مسجد الرحمة، الذى بنى بعد ذلك هناك عام 25ه فى المنطقة التى أمر فيها عمرو بن العاص بوقف القتال مع جنود الروم الذين حوصروا فيها وكادوا يبادوا عن آخرهم.. لولا موقف بن العاص وبه رحمة بهم. الأمر ليس جديدا، على جندب بن جنادة، أو أبوذر الغفارى أحد أول خمسة رجال دخلوا الإسلام، فهو دائما متشدد فى الحق وفيما يعتقد ويعتنق وينفذ، ويكفى أن تعرف موقفه من الإسلام عندما اعتنقه. فقد كان قد ترك غفار موطنه، لأن أهلها يستحلون الشهر الحرام فأخذ أمه وشقيقه إلى خاله، حيث مكثوا قليلا، وقد أكرمهم كثيرا، لولا وشاية من قبيلة أخواله حول شقيق أبوذر "أنيس" عن علاقة مع زوجة الخال فقال له أبوذر.. هذا فراقى. كان أبوذر أنذاك يصلى لله، مستقلا بقلبه كل ليلة حتى الفجر، يركع ويسجد فى أى اتجاه يوجهه إليه الله، ويهديه إليه قلبه.. واستمر فى ذلك مدة 3 سنوات حتى سمع عن رجل يدعى أنه نبى.. فأرسل شقيقه وكان شاعرا ليستطلع الأمر فذهب إلى مكة واستمع للنبى وعاد يقول له إنه سمع كلاما ليس من كلام الكهان ولا الشعراء وأن الرجل لصادق.. فقرر أبوذر النزول بنفسه إلى مكة.. ولم يكن فيها أى أحد.. لكنه أخذ يبحث عن الرجل دون أن يسأل أحد.. ومكث فى الكعبة شهرا كاملا، ليس معه أى زاد، إلا ماء زمزم.. وقال بعدها إنه سمن "أصبح جسمه سمينا" من ماء زمزم ولم يشعر أبدا بجوع، حتى استلفت يوما نظر على بن أبى طالب وكان شابا صغيرا آنذاك قبل الهجرة.. فسأل الغريب عن أمره فطلب منه أبوذر حفظ السر. وسأله عن الرسول فصحبه إليه وسمع منه وأسلم.. فاستضافه أبى بكر ليطعمه من زبيب الطائف فكان ذلك أول طعام له من شهر وطلب منه النبى أن يذهب لأهله فى غفار، يدعوهم للإسلام وإذا ما سمع بهجرة النبى فليلحق به حيثما يهاجر، فإذا أبوذر يقول: والله لا أذهب حتى أعلنهم ووقف فى الكعبة ينادى قريش، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.. فاجتمعوا يضربونه، ضرب الموت، لولا حماية العباس عم النبى، الذى حضر فجأة ليحذرهم من أنه من غفار حيث تجارتهم وطرقها تمر بها، وأخذه ليغتسل بماء زمزم من الدماء التى عمت جسده، لكنه عاد فى اليوم التالى ليكررها وينقذه العباس أيضا. عرض أبوذر أمر الإسلام على والدته وشقيقه فأسلما، وذهبوا جميعا إلى غفار، فأسلم نصفها، وقال النصف الآخر عندما يأتى النبى نسلم وفى الهجرة أسلموا جميعا.. فقال النبى: غفار غفر الله لها. صاحب أبوذر النبى فى حياته بالهجرة وكل غزواته، ماعدا غزوة بدر، فلم يلحق بها وتخلف قليلا عن غزوة تبوك، لمرض أصاب بعيره، وعندما تأخر أمر شفاءها حمل متاعه على كتفيه وسار راحلا وراء النبى الذى انتظره أثناء الطريق وعندما رأه قال: أبوذر يمشى وحيدا، ويموت وحيدا، ويبعث وحده. كان مثالا للزهد والصدق والعلم والعمل، يقول الحق، لا تأخذه فى الله لومة لائم، وتلك كانت مصيبته. شجاعا، ينفرد وحده بقطع الطريق، ويهاجم أى منطقة يأمر بها رسول الله، فى وضح النهار، على فرسه أو على قدميه. هو أحد أربعة أمر الرسول بحبهم، مع على وسلمان الفارسى والمقداد وكان النبى لا يبدأ الحديث فى مجلسه إلا فى حضور أبوذر، وإذا غاب سأل عنه. كان يخدم النبى طوال يومه، ثم يذهب إلى المسجد، حيث مسكنه الذى يقيم فيه، يصلى ويقيم، فسأله النبى يوما عن موقفه إذا ما أخرجوه من المسجد.. قال اذهب إلى الشام فهى أرض الأنبياء وأكون من أهلها.. فسأله وإن اخرجوك من الشام، قال: أعود للمسجد، فسأله أيضا وإن أخرجوك ثانية؟ قال: أقاتل بسيفى حتى الموت. فقال له النبى: بل تتفادهم حيث قادوك، حتى تلقانى وأنت على ذلك.. وأوصاه.. أن أسمع وأطع ولو لعبد حبش. طلب أبوذر من النبى يوما.. "الإمارة" أى أن يتولى إمرة أى عمل أو مدينة فى الإسلام فرد عليه النبى بالرفض ووضح السبب وهى أن أبوذر ضعيف، وأن الإمارة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها. فقد كان أبوذر متشددا فى الحق، لا يميل إلى المهادنة أو السياسة مما لا يجعله صالحا فى معاملة الرعية. وكان ينفق كل أمواله فى سبيل الله، فأمره النبى أن لا يأتمر على مال يتيم، حتى لا يضيع مال اليتيم بمثل هذا السلوك. لكنه كان فى سبيل الله، لا يتأخر بأى شيء، فهو يشارك فى جهاد فتح الشام ومصر وغيرهما ويقال كان فى أواخر أيامه، عنده 30 فرسا، كان يرسل 15 منها للجهاد فى سبيل الله وتبرعا منه للجنود، ويرعى هو الأفراس الباقية.. فإذا ما عادت المجموعة الأولى أخرج المجموعة الثانية للجهاد. لم يكن ذلك غريبا على رجل كان لا يمتلك فى بداية شبابه إلا عنزة، كان يحبها، فيوزع من لبنها على جيرانه وضيوفه قبل أن يتناول هو أى شىء منها. ويقال.. كان عطاؤه بعد ذلك من بيت مال المسلمين 4 آلاف دينار سنويا كان يعطى غلامه "خادمه" ما يكفيه على مدى عام قادم، ويصرف الباقى فى سبيل الله وعلى الضعفاء والمساكين. ويروى أن معاوية حاول اختباره يوما بأن أرسل له ألف دينار هدية وأرسلها فى وقت متأخر من الليل، ثم أعاد إرسال "عاملة" له فى الصباح يقول له إنه أخطأ، فقد أرسلها معاوية لرجل آخر، وأنه لكى يحميه من معاوية فليرد له الألف دينار، ليضعها حيث أمره.. فرد أبوذر.. لقد أنفقتها.. ولو أرادها معاوية فلينتظر ثلاثة أيام حتى أجمعها له.. فعرف معاوية أنه لا يصلح له مقام لأبوذر فى الشام.. فقد كان معاوية يهدف إلى أنه يجد الأموال عند أبو ذر فى الصباح فيشيع أنه يكنز الذهب والفضة، لكنه خيب ظنه ولأن أبوذر كان يجتمع الناس حوله، فيؤلبهم على الحكام ورفاهيتهم، ورفضه المتشدد لأى أمر ينفذه الحكام، لا يتفق مع أوامر الله ومصلحة المسلمين، أرسل معاوية إلى عثمان أن أبوذر يؤلب أهل الشام عليه.. فأمر عثمان بحضور أبوذر للمدينة. وعندما التقينا هناك قال أبوذر لعثمان.. أنا لست من الخارجين على أمر أمير المؤمنين ولا الإسلام.. فطلب منه عثمان أن يبقى بجواره فى المدينة ويأخذ عطاياه فرد عليه.. دنياكم فاعزرها.. ووعدنا ربنا. أأذن لى بالزبدة، وهى منطقة بين مكةوالمدينة وكان عليها أميرا "عبدا حبشيا" فأقام هناك إلا أن الأمير كان يقدمه للصلاة بالناس.. احتراما وإجلالا. فى ذى الحجة 32ه جاءه مرض الموت، فبكت زوجته.. فقال لها: لماذا؟ فقالت: لأنه ليس لدى ما أكفنك به.. فقال لها هى وغلام "عبد" عنده: ضعينى على الطريق، فإذا مر العائدون من الحج، فقولى لهم أباذر، فقالت: وكيف وقد انقضى موسم الحج، وانقطع المسافرون، فقال لها: سترين. ومات ووضعته على الطريق، فإذا قافلة عليها عبدالرحمن بن مسعود.. فلما عرف كفنه ودفنه وبكى كثيرا عليه.. ويقال لحقه ابن مسعود بعد عشرة أيام. ترك أبوذر خلفه، بنت صغيرة ضمها عثمان لبناته ليتولى تربيتها ومسئوليتها. ومات أبوذر وحيدا.. ودفن وحيدا.. فى منطقة الزبدة.. رحمه الله.