إن »المجتمع المدني« يعد قريناً ل »الديمقراطية« عبر تاريخيهما الممتد إلي ما يقرب من ألفين وخمسمائة سنة، حيث تأسس مفهوم المجتمع المدني عند »أرسطو«، بوصفه رابطة سياسية تعمل علي تحسين وضع مواطنيها، وذلك باكتشاف الصالح العام، والإفصاح عنه ولأن حرية التفكير أهم مقومات الحرية السياسية بل ضرورة حتمية لأي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي، لذا جاء تعريف »أرسطو« للعبودية: »إن العبد هو من ضعف روحه، وقلة حيلته، فأصبح تابعاً لغيره«. إن »أرسطو« في هذا التعريف يطرح قصداً من خلال تشخيصه للعبودية بأنها تتبدي انهياراً ذاتياً للمستعبد، وهو ما يؤول بأنه دفع للمستعبد إلي مغادرة سكني العبودية، انطلاقاً من أنها حالة عارضة علي البشر، يمكن الشفاء منها ذاتياً، حيث الأصل في وجود الانسان يتجلي حال ممارسته حريته، آنذاك يتحقق تطابق الروح الانساني مع ذاته، بوصف الحرية شرطاً إنسانياً، صحيح أنه بعد ترجمة كتاب »السياسة« لأرسطو، في أوروبا خلال القرن الخامس عشر، بدأ ذيوع مصطلح »المجتمع المدني«، الذي جري تداوله بعد ذلك لكن الصحيح أن فلاسفة عصر التنوير الغربي في القرن الثامن عشر، هم الذين أبرزوا أهمية الحريات ذات الطابع السياسي والحقوقي، في اشتغالهم علي مفهوم المجتمع المدني، انطلاقاً من أن هذه الحقوق تشكل عامل التغيير الأساسي في علاقة معاناة أي مجتمع لاسترداد استحقاقاته من أنظمة الحكم المطلقة المستبدة، ومؤسسات الهيمنة التي هاجمها مفكرو عصر التنوير وإذا كان أحدهم، وهو عالم الاجتماع الاسكتلندي »آدم فيرجسون«، في كتابه الصادر عام 7671 بعنوان »مقال عن تاريخ المجتمع المدني«، قد كشف تحديداً عن الفساد والرق السياسي، وتسويغاتهما الزائفة وتلاعباتهما، وذلك بحكم تخصصه، فإن فلاسفة التنوير قد واجهوا كل أشكال الرق التي تمارسها أنظمة حكم الصمت، مؤكدين أن زوالها مرهون بضرورة »خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلي الذي وضع نفسه بنفسه فيه، فالقصور العقلي يتجسد في التبعية للآخرين، وعدم القدرة علي التفكير الشخصي، وهو ليس نتيجة لغياب الفهم، ولكن لغياب الشجاعة لاستخدام هذا الفهم، والاعتماد علي الآخرين الذين ينصبون أنفسهم أوصياء عليه« إن مبدأ رفض مجتمعات الصمت، ينطلق من حقيقة أن جناحي صلاحة الحكم وجدارته هما: الديمقراطية، والمجتمع المدني. أعيد استيلاد »المجتمع المدني« في العصور الحديثة، وإن كانت المسوحات المعرفية تكشف عن تباينات خلافية كثيرة حول تعريفه، ومكوناته، وشروطه، ودوره. والحقيقة أن هذه الاختلافات وليدة تصورات متعددة لأصحاب رؤي، يحكمها أن العالم ليس واحداً في تنوعه، وأيضاً تعاقب اختلاف المراحل التاريخية، وتعدد المعتقدات الفكرية وانحيازاتها، ومحاولات توظيف الظاهرة لأهداف عملية، أو لإثبات نظرية ما محددة، عندئذ تتبدي تلك التصورات بتعددها معضلة، لذا فإن التعريف المعياري الذي يستند إلي القواعد، بوصفها خاصية أساسية للظاهرة، والتي تتحدد بالنسبة إلي المجتمع المدني في أنه: تنظيم طوعي، مستقل عن الدولة، يعمل للصالح العام، ولا يسعي للوصول إلي السلطة، ولا يلجأ الي العنف، هذا التعريف الشائع يؤكد بنية المجتمع المدني بوصفه تنظيماً طوعياً تعاقدياً مستقلاً، بين مواطنين أحرار، يستهدف السعي لتحقيق الخير العام، ووسائله الحوار والتداول، حصانته تستند إلي الحقوق العامة لكن يبدو ان هناك بعض الشكوك في عدم القناعة بالاستقلالية غير المنقوصة للمجتمع المدني عن سلطة الدولة، إذ يري »جون إهرنبرج« أستاذ العلوم السياسية بجامعة لونج آيلند بأمريكا أن »الدولة غالباً ما تستخدم المجتمع المدني لتعزيز مصالحها، سواء أكانت تضفي علي منظمة شبيبة هتلر طابعاً مؤسسياً، أم تشجع علي تأسيس جمعيات المحاربين، أم تؤسس شبكة اتحادات كرة القدم، أم تقدم معونة سرية إلي منظمة ترعاها إن (أي) دولة تستطيع تكوين (أي) مجتمع مدني، وتدعمه، وتتحكم به، أو تقمعه، وإنها لمحاولة مضللة علي نحو عميق أن نصور المجتمع المدني بمعزل عن السلطة السياسية«. ليس صحيحاً ما يراه الكاتب من أن المحددات السياسية والاقتصادية تلعب دوراً حاسماً بالنسبة إلي دور المجتمع المدني، إذ في هذا السياق ما كان يمكن أن تقوم ثورة أو يتغير نظام، لكن الصحيح أن القيمة الإيجابية للمجتمع المدني بحكم تكوينه، أنه ليس أداة تعمية، ولا يستعبده أحد وصحيح أيضاً أنه لا وجود لعدالة في مجتمع من غير حق يسندها، ولا وجود لحق من غير تعبير عن هذا الحق، والصحيح كذلك أن المجتمع المدني هو الجسر الناقل لمنظومة الحقوق والاستحقاقات، من ممالك الصمت إلي الحيز العام، حيث فضاءات حرية المشاركة، والتلاقي، والتواصل وحرية التعبير والحوار، والنقاش، والتداول، انفتاحاً علي مختلف معطيات المعرفة بحثاً في المسكوت عنه، واللا مفكر فيه، والمهمش بما يكفل شفافية مستمرة للواقع السياسي والاقتصادي، والتي دونها لا تتوالد الحقائق، ولا يتحقق الخير العام الحقيقي والواقعي للوطن، لذا فالمجتمع المدني يجب تحصينه من خلال توافقات علنية مشهرة، تحكمها ضمانات القانون والتشريعات الشفافة النافذة، التي تحدد إجراءات الوقاية، وآليات الحماية. أليست الديمقراطية الحقيقية هي التي تؤمن حقوق مواطنيها، ضد نزعات السلطة العامة المتسلطة؟ إن الديمقراطية عندما تتآكل لا تعترف بالمجتمع المدني.