أعلنت إميلي أن أباها لم يمت. ظل جثمان والدها ممدداً علي فراشه لثلاثة أيام. . حاول القساوسة والاطباء إقناعها بضرورة دفن الجثمان، لكنها واجهتهم بإنكارها موته، فتبدي الأمر إنفلاتا فوضويا يورط المجتمع لكن لأن انتظام المجتمع تسيره مرجعية قوانين حاكمة لسلوكيات شأنه العام، تعززها قوة إكراه تلزم أفراده بالخضوع لتلك القوانين، حتي لاينزلق المجتمع إلي شراذم مبعثرة تضيع في ظلها الحقوق كافة، لذا عندما لوحوا باللجوء إلي القانون والقوة، أذعنت إميلي بإجراء مراسم الدفن. إن دلالة موقف إميلي تشير إلي أنها تعاني حالة من الشعور بالافتقار إلي شيء مازلزل بغيابه وجودها، فراحت تنكر القوانين الطبيعية والاجتماعية معا. ولا شك أن تقصياً لمدي تأثير سلطة الأب قد يسمح بمعرفة الترسبات التي استنبتتها تلك السلطة في عالم إميلي النفسي، وتجلت في مصير وجودها، حيث رفض الأب جميع الشبان الذين تقدموا للزواج بإميلي، فدمر حياتها، وحرمها جودة تحقيق ذاتها، بتأثير تسلط شرعي لسلطة أبوية مطلقة، فأصبحت إميلي ضحية استحواذ تلك السلطة الأبوية التي اتسعت اختصاصاتها بوصاية علي خصوصيات حياتها. صحيح أن الاب قد عطل وجودها الإنساني، لكن الصحيح كذلك انها أمام موته قد رفضت رحيله. تري هل سحقتها السلطة الأبوية حتي تماهت إميلي معها، والتصقت بها، وفقدت بغيابها مذاق الحياة الإنسانية الحقة؟ تراها عندما قبلت دفنه قد برئت من سلطته، أم أنها مازالت مستعبدة في أسر خداع الالتصاق بمن قهرها، أم تقنعت بقناعه المتسلط لتحاول ممارسة سلطته؟ أصبح وجود إميلي في البلدة، يمثل لأهلها واجبا متوارثا مفروضا، وقد فرض حكم الجدارة لإميلي علي الناس بموجبات قرار أصدره العمدة بسلطته المطلقة، وأمر بإشهاره، يقضي بإعفاء إميلي من دفع الضرائب نهائيا، اعتبارا من يوم وفاة والدها، إذ اختلق العمدة حكاية تفتقد الإسناد، مستهدفا ان تمارس سلطانها علي الجميع بتأثير منح والد إميلي وضعا اجتماعيا متفردا، حيث مفاد الحكاية أن والد إميلي قد أقرض البلدة مالاً، وقد آثرت البلدة أن ترد إلي الرجل ماله بهذا القرار، وذلك دون إفصاح العمدة عن تعيين الوقائع، وتحديد مسارها الإجرائي والمؤسسي. لكن لأن القرار أصدره العمدة بسلطته المطلقة، وقد صدقته إميلي لتنفيذه، لذا لم يكن لأحد أن يطلب أن يستوثق من صدق سند الاعفاء الذي طرحته الحكاية، هل يعني ذلك أن السلطة المطلقة ليس عليها ان تقدم إلي الناس براهين ودلائل، بل يكفي أن تبهرهم بقرار إبلاغي أبوي معصوم من أي إسناد غير سلطة إصداره؟ بعد مرور سنوات، حين أصبح الجيل التالي عمدا، وأعضاء المجالس البلدية، ويحملون أفكارا أكثر عصرية، تستبعد كل قرار أبوي يمس مشروعية الحقوق الطبيعية والمكتسبة، لذا فقد احتجوا استياء من هذا القرار الذي يخاصم عدالة الاستحقاق، ويتبدي تشريعا ذاتيا مطلقا لعمدة البلدة الراحل، لا يستند إلي تشريع مؤسسي يحمي الحق العام للدولة من الاقصاء، فطالبوا إميلي رسمياً بالضرائب المستوجبة عليها، فرفضت تنفيذ القانون العام كعادتها. وعندما ذهب إليها وفد من المجلس البلدي، مؤكدين لها غياب الحقيقة عن الحكاية التي أعلنها العمدة، مارست عليهم غطرسة مستعصية، وكأنها تمثل حد العالم الأقصي المغلق أمام أي قانون أو سلطة سوي سلطتها. من المؤكد أنه في إدارة الشأن العام للمجتمعات ليست هناك سلطة إلا لسلطة تصدر عبر مؤسسات تشريعية تحملها قوانين تخول ممارسة تلك السلطة، لذا فإن ممارسة اميلي في مواجهة المنع الذي يحدده القانون العام للمجتمع، ليست ممارسة تستند إلي حجة منطقية، بل حجة نفسية وليدة تصورها عن نفسها أنها سلطة مطلقة، لاتقبل المساءلة. تري هل بعد رحيل السلطة الأبوية المتعسفة عن حياتها، استعاضت عنها بأن اصبحت هي نفسها تلك السلطة التي تبحث عمن تمارس عليه سيطرتها؟ صحيح أن إميلي أصبحت وحيدة قسريا، وصحيح أنها مرضت طويلا، فلم تعد تخرج من المنزل إلا فيما ندر، وكانت تبدو مزيجا من المأساوية والسكينة، لكن الصحيح انه في الصيف الذي تلا وفاة والدها، اعتاد أهل البلدة في أصيل كل يوم احد، وفي عربة يجرها جوادان أن يشاهدوا إميلي تجلس برفقة هومر بارون، مشرف العمال الوافد من الشمال، الذي يباشر تنفيذ عملية تعبيد الأرصفة بالبلدة. تضمن همس نساء البلدة اعتراضاتهن المتعددة علي سلوك إميلي مع مشرف العمال، إذا استبعدن فكرة زواجهما للفارق الاجتماعي بينهما، لذا طاف بهن يقين أنها تمارس معه علاقة خارج حد الزواج. أجبرت السيدات قس الكنيسة أن ينذر إميلي علي سلوكها. لم يبح القس بما حدث عند مقابلتها، ورفض العودة إليها مجددا، لكن حقيقة ماحدث بينهما تجلي واضحا عندما لم تنقطع لقاءات إميلي وهومر، حيث ظلت عربتها تجوب شوارع البلدة في أصيل كل أحد، وقد تجلت علي إميلي دلالات شموخ، وغطرسة متحدية تقصي من الوجود غيرها. توقعت نساء البلدة انهما تزوجا، لكن أملهن خاب عندما لم يعلن عنه، خاصة بعد رحيل هومر بارون عن البلدة، والذي سرعان ما عاد بعد ذلك، حيث شاهدته إحدي الجارات وهو يدخل المنزل من خلال باب المطبخ عند غسق ذات مساء، وكانت هذه آخر مرة يشاهد فيها هومر بارون. عمت البلدة خدمة البريد الحكومي، وصدرت القوانين التي تستوجب وضع الأحرف المعدنية، وتعليق العلب البريدية علي أبواب المنازل، فرفضت إميلي كعادتها تنفيذ ذلك .تري هل رفض إميلي يعد احتقارا للقوانين، وتحديا لها، ويشكل بالنسبة إليها اختبارا لسلطتها؟ يبدو أن إميلي في توهمها لم تكن تدرك أن الإنسان يكون حرا يخضع للقوانين العامة وليس للبشر، لذا عندما وقفت منتصبة القامة، رافعة الرأس، وطلبت من الصيدلاني شراء سم الزرنيخ، فاخبرها الرجل أن القانون يلزمها أن تصرح لأي غرض سوف تستعمله، فإذ بها تحملق به، وتحدق في عينيه، وكأن إرادتها هي قانون لايقبل المساءلة، أعطاها الرجل كيسا مغلقا، عندما فتحتة في منزلها اكتشفت انه سم للفئران.اختفت إميلي عن الظهور بشوارع البلدة لستة شهور، وأيضا لم تكن ترد علي مطالباتها القانونية باستحقاقات المجتمع من الضرائب بتحد معلن، وشد ما كانت تتبدي من خلف النافذة قوية شامخة، لكن أحدا لا يجرؤ علي الاقتراب من المنزل سوي خادمها الذي يخرج ويدخل حاملا سلة التبضع. ويوما داهمت البلدة رائحة كريهة نافذة، تصدر عن منزلها، وتعددت الشكاوي إلي عمدة البلدة الذي كان شيخا في الثمانين تطلب إليه إعمال القانون لإيقاف تلك الرائحة. اجتمع المجلس البلدي الذي يتكون من ثلاثة كهول، وواحد من شباب الجيل الصاعد الذي طلب أن ترسل إليها عريضة تبلغها ضرورة تنظيف منزلها، ثم اشترط الشاب أنها إذا لم تستجب، فإذ بالعمدة يقاطعه قبل أن ينهي جملته، لإدراكه بأنه سيشير إلي مشروعية استخدام الإكراه تنفيذا للقانون العام، لذا اعترض العمدة بأنه من غير المعقول أن تواجه السيدة إميلي بأن منزلها تفوح منه رائحة سيئة. تري هل المشكلة في افتقاد القدرة علي تنفيذ القوانين العامة، أم في نظام يقمع أفكار الجيل الجديد، ويحرص علي التضامن مع مصالح خاصة لأقلية من المنتقين، تسقط أمامهم مشروعية سلطاته، فلا يصبح المواطنون بذلك متساوين في عدالة الحقوق؟ بعد منتصف الليلة التالية عبر بعض الرجال حديقة منزل إميلي، وانسلوا خفية مثل اللصوص، وراحوا يرشون الجير حول المنزل، وفي اثناء انسحابهم أضيئت نافذة، وشاهدوا إميلي تقف خلفها جامدة كتمثال. وبعد أسبوعين اختفت الرائحة، تري ألا يعني ذلك أن سلطة القانون العام قد سقطت أمام تحد لها معلن قد داهم البلدة، ولم تستطع ان تتعقب الكشف عن حقيقة أسبابه،وراحت في الخفاء تعالج أعراضه؟ مرت سنوات طويلة، وماتت بعدها إميلي، فحضرت ابنتا عمها إلي البلدة لإقامة الجنازة، فتوافد الناس إلي منزلها لوداعها، ودفعهم الفضول إلي رؤية المنزل الذي لم يره أحد منذ سنوات، وفي الطابق الأعلي كانت هناك غرفة مغلقة، فجري اقتحامها، فتبدت محتوياتها أسيرة تراكم زمن طويل بكل تحولاته، من بينها كان ثمة رباط عنق، وبذلة معلقة، وحذاء،أما الرجل نفسه فكان هيكلا عظيما ممددا علي السرير، إذأن ما تبقي من الرجل كان متحللا تحت بقايا بيجامته. تلك نهاية القصة الرائعة »وردة لإميلي« للكاتب الأمريكي »وليم فوكنر«، الذي أدان فيها السلطة المستبدة، بوصفها الشر المطلق الذي لاتحده قوانين، فاضحا النظام الحاكم، بالكشف،بعد فوات الأوان عن جريمة قتل إميلي لمشرف العمال هومر بارون بالسم الذي اشترته من الصيدلية، وذلك ما عمق تأثير اخطار الشر المطلق في انتظام المجتمع، سواء بتعطيل الحق العام، أواختلال مصائر الناس.كما أكد الكاتب أيضا ضرورة الخروج من السبات بالتجديد، وممارسة القدرة علي قبول التغيير المشروط بالانفتاح علي التداول، ودعم حراك الشباب بوصفهم فاعلين اجتماعيين لطاقة التغيير، إذ كان يمكن للعمدة تعقب الجريمة حين داهمت البلدة اعراضها المتمثلة في تلك الرائحة الكريهة، لو أنه بدلا من ان يتكتم خفية أعراض الجريمة بالتضليل، مارس سلطة عدالة القانون دون تمايز،ولم يقمع الشاب عضو المجلس البلدي بإقصائه، بسيطرته المستبدة علي مؤسسة القرار، إذا كان صحيحا أن ذلك نتيجة ممارسة أشكال من الديمقراطية بلا جوهر، بل تخاصم سلطة القانون، وتفتقد إلي تفعيل قيم الديمقراطية التي تحقق مجتمع العدل والحرية والانصاف، فمن الصحيح كذلك أنه إذا أصبح حائز السلطة لايخضع للقانون والمساءلة،فذلك يعني أن كل شيء قد تم التلاعب به، وتحديدا يعني أن جوهر الديمقراطية قد حجب، وأن حقوق الإرادة العامة قد كبلت أمام أهواء سلطة مطلقة .لذا يتبدي واضحا أن السؤال المسكوت عنه في تلك القصة هو: كيف يتأتي لحق أن يوقف سلطة، حين يتجاوز حائزها حدود مسئولياته، متعارضا مع أكثر مبادئ الحق يقينا؟ تري أليس صحيحا أن ثوار الخامس والعشرين من يناير، قد شقوا طريقا للإجابة عن ذلك السؤال بمواجهتهم تلك السلطة بمرجعية الحق، حين انخرطوا في حضور متلاحم، انفتح علي الفضاء الاجتماعي بتعدد قواه، فتشكلت بذلك حملة تحد سياسي شعبي، أعلنت سحب الولاء عن هذه السلطة، إنكارا لشرعيتها، وقطعا لمصادر القوة عنها؟ لقد نجحت الثورة في إسقاط شرعية تلك السلطة وأركان نظامها. كان رهان هذا النجاح يستوجب قراءة المجريات، وتشخيص الراهن، إدراكا للحادث، واستشرافا للمستقبل، بوصف ذلك مسئولية مستحقة، لابد أن تتبلور، وتنجز في صياغة دستور يستهدف تأسيس إطار جوهر المجتمع الديمقراطي الذي يحمي الحق، ويقيد السلطة المطلقة، ويحرر المشاركة الشعبية، ويعزز فاعليتها بتطوير أدواتها، وتمكينها إجرائيا من ممارسة استحقاقاتها في إدارة شأنها العام فالدستور بمفاهيمه، ومعاييره، وقيمه وتوجهاته، هو الضمانة الأكيدة التي تحقق لمواطنيه تعايشا آمنا في ظل استحقاقات عادلة، تحميهم من الهيمنة، أو الاقصاء. أو النفي لقيم التداول.