يبدو أن الرجل لم يفرق بين التشابه والتكرار، في أثناء عبوره الغابة، لذا ضل مسار الطريق الصحيح للخروج منها، إذ نتيجة فقدانه القدرة علي مراقبة دلالات الطريق، تضاءلت لديه المسافة بين معرفته ومعالم الطريق فوقع في التيه، ومع ذلك واصل السير، فراح بذلك يعيد انتاج التيه الذي سقط فيه، منجرفا في الخطأ الأوسع والأخطر، حيث استحكمت دائرة الضياع، فتبدي اضطراب الرجل في عدم قدرته علي معرفة توجه يقوده إلي الطريق المفقود، وانتابه شعور بالتهديد انتزع منه الاحساس بالأمان، واستوطنه رعب علي مصيره، تجلي في توقعه أن الموت قد يأتيه من كل صوب من قبل كل الحيوانات المفترسة التي تجوب طرقات الغابة، صحيح أن الأمان والرعب مسرحهما الأساسي النفس البشرية، لكن الصحيح أن ذلك لم يكن التحدي الوحيد الذي لا مفر للرجل من مواجهته، إذ تقاطع معه تحد آخر تخطي الحالة النفسية إلي احتياج جسدي مادي، حيث تسلط الجوع عليه، واشتدت ضراوته نتيجة حصار التيه واخفاقاته في الحصول علي طعام، فأصبح محروما من حريته لافتقاده الأمان، وعدم اشباع حاجة الجوع، إن الواقع القاهر الذي يعيشه الرجل فرض عليه عبودية الخضوع لذلك الحرمان المضاد لوجوده، بحصاره له بين حدين، أولهما يؤدي إلي القتل المفاجئ عندما تفترسه الوحوش، وثانيهما يؤدي به إلي الموت البطئ نتيجة عدم اشباعه حاجته إلي الطعام، تري كيف يمكنه أن يتحرر من تلك القيود علي حريته وأمنه؟ مرت بالرجل قافلة، فركض نحوها محتميا بوفرة أفرادها، هاربا من رعبه، متطلعا إلي الطعام تحت أية شروط عمل ليفلت من جوعه، فأصبح الخادم الأكثر طاعة لرئيس القافلة، لكنه عندما وصل المدينة، وتمتع بعجائبها، واعتاد أمنه، اكتشف انه محض عبد تمارس عليه عبودية من نوع آخر، تستهدف تأقلمه مع التنازل المستمر عن حريته في مقابل أن يصبح مردود عبوديته حمايته وإشباع جوعه، فراح يبحث عن ازدهاره الإنساني الحقيقي الذي لا يتأتي له إلا عندما يغدو حرا، لكن فجأة هاجمت المدينة قبائل غازية، مارست السلب والمجازر حرقا وقتلا، فغابت عن المدينة الحرية والأمان الاجتماعي، فهرب الرجل إلي الريف، ولجأ إلي قلعة يحكمها ويحميها سيد واحد يؤوي الحيوانات والبشر، وذلك ما يعني غياب الحرية السياسية عن سكانها، إذ اقتنصها الحاكم الفرد المهيمن واحتكرها لذاته، لكن الرجل قدم كل طاقة عمله لذلك السيد الحامي لقاء انقاذ حياته، استطاعت سلطة فاعلة ان تعيد النظام إلي المدينة، عندئذ ما انفك الرجل يشكو من أعمال السخرة التي يؤديها لسيده الحامي بما ينفي وجوده الانساني، ودون اعتراف بحريته وعدالة استحقاقاته، فكان علي الرجل إما ان يذهب إلي المدينة لتأجير ذراعيه وفق هواه، وإما ان يمارس صناعة تناسب قدراته، حينذاك نشبت أزمة اقتصادية غاب في ظلها الأمن الاقتصادي عن المدينة، ولم يعد المزارع أو المقاول يجد ما يبيعه بالسعر الذي يأمله، أما العامل فقد قذف به إلي الشارع، فعاد الرجل ليبحث عن سيد يؤمن له انتظام عمله واستقرار أجره. لقد روي الناشط الحقوقي والاقتصادي »براتون دو جوفنيل« هذه الحكاية في كتابه المتفرد »في السلطة والتاريخ الطبيعي لنموها« ليطرح من خلالها تاريخ معاناة الإنسان عندما يفقد حتمية التلازم بين الحرية والأمان، كاشفا عن اضمحلال ازدهاره الإنساني، الذي يمثل الثمن الباهظ الذي يدفعه نتيجة قبوله تفكيك ذلك التلازم، لقد لخص الكاتب في حكايته صراع الإنسان عبر تاريخه في علاقته المضطربة مع واقعه، عندما ينتج ذلك الواقع علاقات التفاوت الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وينتج كذلك علاقات الأقوي والأضعف، واختلال الاستحقاقات العادلة، وتغييب التكافؤ لا شك ان المسكوت عنه في هذه الحكاية يتجلي في الاشارة إلي المستقبل وامتداداته، لينبه علي ضرورة الاشتغال بالتدبر المتواصل لاتخاذ مسافة حاسمة من شرور الواقع وسيئاته وفساده، واستيعاب العلاقة البينية المتداخلة والمتشابكة بين الحرية والأمان، وتلازمهما الذي يتجلي بوصفه مقدسا اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، يشكل منظورا أساسيا لدي السلطة العامة، ليصبح مظلة لأفراد المجتمع كافة عبر مؤسساته، صحيح أن الحرية الايجابية أيقونة الديمقراطية، وصحيح أن الحرية لا تكون حرية حقيقية إلا عندما تصبح عامة، وصحيح أن الحرية عندما تفقد الحماية تفقد وجودها، تري أليس صحيحا أن الحرية لا تتوطن، إذا غاب عنها الأمان العام الذي يحميها؟ إن دلالات ازدهار المجتمع تتجلي في الانفتاح علي التحرير والتغيير والتنوير والتداول، ورهان تحقيقها توطين الحرية.