كانت حرب فيتنام، التي بدأت في 1955، هي البداية ... أو بمعني أدق، كانت نهايتها هي البداية، حين خرجت منها، الولاياتالمتحدةالأمريكية، لتجد أن الخسائر البشرية، التي تكبدتها، تفوق تصور أي عقل بشري، وتفوق حساباتها. فطبقاً للإحصاءات، فإن من بين كل 10 أسر أمريكية، هناك أسرة، بها إما قتيل، أو جريح، أو مريض نفسي، خرج من تلك الحرب غير قادر علي التعايش داخل المجتمع. وهنا اجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي، ليضع استراتيجية جديدة، لاستخدام القوات الأمريكية المقاتلة، خارج الأراضي الأمريكية، وجاء القرار، بالإجماع، بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية، لن تشارك، بأبنائها، في أية حروب مستقبلية، وخرجت بالمفهوم الجديد »الحرب بالوكالة». أُجري الاختبار الأول، لهذا المفهوم الجديد، عند اندلاع الثورة في أفغانستان، في 1973، والإطاحة بالملك »ظهر شاه»، وتولي الشيوعيين مقاليد حكم البلاد. وأضاءت أجهزة الإنذار الأمريكية، بإعلان النظام الشيوعي، في أفغانستان، تحالفه مع الاتحاد السوفيتي، بموجب معاهدة الصداقة، وعلت أصوات الإنذار، بوصول القوات السوفيتية، لدعم النظام الشيوعي، في أفغانستان، وهنا توتر الموقف في العاصمة الأمريكية»واشنطن». إن وصول السوفييت، بقواتهم العسكرية، إلي أفغانستان، معناه الوصول إلي أقرب ما يمكن من الخليج العربي، حيث الذهب الأسود، »البترول»، وأهم مصادر الطاقة في العالم، فبدأ التخطيط في الولاياتالمتحدةالأمريكية، علي أعلي مستوي، ضد هذا الغزو الجديد، وكانت مجموعة التخطيط الأمريكية تضع نصب أعينها، هدفاً واحداً فقط، وهو طرد السوفيتيين، وقواتهم العسكرية، من أفغانستان. ومع بدء التخطيط لهذه العملية، التي أطلق عليها اسم »كارلوس»، ولا يعلم أحد، حتي الآن، السبب وراء اختيار هذا الاسم، وضعت مجموعة التخطيط، صوب أعينها، أن هدف المهمة هو طرد السوفيتيين، من أفغانستان، دون استخدام القوات العسكرية الأمريكية العاملة ... أي »الحرب بالوكالة» ... ومن هنا بدأ الاتصال بالقبائل الأفغانية، لتجنيدهم للعمل لصالح الولاياتالمتحدة، وبدأ إمدادهم بالسلاح، والعتاد، عن طريق وسطاء، وشركات، من دول أخري، بعيدة تماماً عن الولاياتالمتحدة. ولقد وصل حجم الأموال، التي تم دفعها، علي سبيل المثال، إلي أسامة بن لادن، آنذاك، إلي 5 مليارات من الدولارات، في هذا الوقت، والتي تعادل، اليوم، عشرة أمثالها، وهكذا مع باقي القبائل في أفغانستان. وقويت شوكة المجاهدين الأفغان، الذين خططت لهم الولاياتالمتحدة، أن تكون فكرة هذه الحرب، علي أنها حرب إسلامية، ضد الشيوعيين الملحدين، وبدأت حركة المجاهدين تستقطب العديد من الإسلاميين، من مختلف دول العالم، ليست الدول العربية والإسلامية فحسب، وإنما من بعض الدول الأوروبية أيضاً؛ حيث نجح إعلام »طالبان» في تجنيدهم. والحق يقال، إن الخطة »كارلوس» كانت رائعة، ودقيقة، في اعتمادها علي عناصر سيكولوجية ونفسية، أكثر من اعتمادها علي السلاح التقليدي. أصبح »المجاهدون» قوي أيدولوجية، أمام الجيش السوفيتي، في أفغانستان، فزادت أعدادهم، وزاد تسليحهم، بأحدث المعدات الأمريكية، ليبدأ القتال، فوق جبال أفغانستان، بلا رحمة، وحققت الكمائن الأفغانية، علي الطرق الجبلية، خسائر كبيرة في صفوف القوات المقاتلة السوفيتية، مما دفعهم للاعتماد علي الطائرات الهليكوبتر، العملاقة لنقل قواتهم، فقامت أمريكا بتسليح المجاهدين الأفغان بأحدث أنواع الصواريخ المضادة للطائرات، فارتفعت خسائر القوات السوفيتية، بنسبة أكبر. وهنا حانت لحظة النهاية، بعد عشر سنوات، أيقن السوفييت أن بقاءهم في أفغانستان، لا يحقق لهم سوي المزيد من الخسائر المادية، والبشرية، وثبت أن القوات السوفيتية غير قادرة علي التصدي »للمجاهدين»، مما اضطرهم للانسحاب من أفغانستان، ونجحت الخطة »كارلوس» في تحقيق هدفها. إلا أن انسحاب السوفييت، من أفغانستان، لم يحقق لأمريكا ما تصبو إليه، بل انقلب السحر علي الساحر، وظهر تنظيم القاعدة، بقيادة »أسامة بن لادن»، الذي يعتبر أكبر تنظيم إرهابي عرفه التاريخ، من حيث حجم الأموال، والأسلحة والمعدات، والعناصر البشرية من كل صوب وحدب، وأصبح اسم »القاعدة»، بلفظه العربي، اسماً مخيفاً، وكابوساً في أمريكا، وأوروبا، وحتي الدول العربية، بعدما أعلن بن لادن، أن أمريكا هي »شيطان العالم» الواجب محاربته، وقتاله. وهكذا ينطبق علي ما حدث في أفغانستان والقاعدة، المثل المصري الشعبي »حضّر العفريت، ومعرفش يصرفه». انطلق بن لادن يوجه ضرباته لأمريكا، بدءاً من انفجار سفاراتها في نيروبي، ودار السلام، في عام 1998، حتي جاءت الضربة الأخيرة في 11 سبتمبر 2001، التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي، في نيويورك، وحاولت النيل من مبني وزارة الدفاع، »البنتاجون»، بالعاصمة واشنطن، في أكبر عملية إرهابية في التاريخ الحديث، لتخسر الولاياتالمتحدة أكبر خسارة مادية، علي أرضها، فهناك عشرة آلاف أمريكي، ما بين قتيل وجريح، فضلاً عن الخسارة المعنوية، بالنيل من صورتها كقوة عظمي. لذلك عندما نجحت مجموعة الكوماندوز الأمريكية، في قتل »بن لادن»، بعد الإغارة علي منزله المنعزل، في قرية صغيرة في باكستان، قررت الإدارة الأمريكية، حرق جثته، وإلقاء الرماد في البحر، حتي لا يكون قبره مزاراً للإسلاميين المتشددين. وهكذا انتهت الخطة الأمريكية »كارلوس» بنجاح مرحلي، ولكن بكارثة كبيرة، جعلت العالم كله في حالة ترقب، وتوتر، إبان فترة تهديد تنظيم »القاعدة» لجميع البلاد الغربية. وأعتقد أن مجموعة إدارة الخطة كارلوس، اجتمعوا بعد إتمام العملية، للخروج بالدروس المستفادة، في التخطيط المستقبلي، وأهمها الإجابة عن سؤال »وماذا بعد؟» ... أي ماذا سنفعل مع العفريت بعد ذلك؟ ما هي النتائج المنتظرة بعد الانتهاء من العملية؟ وعلي الرغم من ذلك، فقد وقعت مجموعة حلف »الناتو» في نفس الخطأ، عندما خططت للإطاحة بالقذافي، إذ لم تدرس نتائج خطتها بعد التخلص منه، غافلة طبيعة القبائل الليبية، وموقفها من رحيل القذافي. واليوم يدرس في جميع كليات الحرب، وفي الأكاديميات العسكرية، مناهج ومحاضرات بعنوان »What if»، أي »ماذا لو؟»، هدفها تحديد كافة التصورات والسيناريوهات المحتملة، بعد انتهاء العملية العسكرية علي المستوي الاستراتيجي، ودراسة أبعادها. وبناءً علي هذا التوجه الحديث، فهناك من المحللين، من يري أن »الخطة كارلوس» قد فشلت، ولم تحقق هدفها، لأنها أفرزت »العفريت» الجديد، وهو الإرهاب الإسلامي.