د. عمرو شريف تحدثنا في المقال السابق عن رحلة أحد أعظم العقول البشرية في القرن العشرين، سير أنتوني فلو، أستاذ الفلسفة البريطاني، رحلته من ضيق الإلحاد إلي رحابة الإيمان. وبَيَّنا كيف أن العلم والفلسفة يسيران سويًا في رحلة عقلية نحو غاية واحدة، وهي التعرف علي الإله الخالق عز وجل. والمدهش، أن المتتبع لتاريخ أوروبا لاحظ أن الثورة العلمية التي مثلت ميلاد العصر الحديث قد أعقبتها أعتي موجة إلحاد في تاريخ أوروبا. إن ذلك يتعارض تمامًا مع ما ذكرناه ذ في المقال السابق ذ من أن الفلسفة والعلم يقودان إلي الإيمان ، فما تفسير ذلك؟ تبدأ القصة منذ عدة قرون .... حتي خمسمائة عام مضت، كان المصدر الأساسي للمعرفة في أوروبا هو الكتاب المقدس المسيحي، كما تبني رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية آراء أرسطو وبطليموس العلمية حول الكون وكوكب الأرض والفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعي...، وألحقوها بمفاهيمهم المقدسة. بناءً علي هذه المصادر، كَوَّن إنسان العصور الوسطي في أوروبا صورة عن العالم، هي: تقف الأرض ثابتة في مركز الكون، وتدور الشمس والقمر وبقية الكواكب حولها في دوائر. خَلَقَ الله العالم عام 4004 ق.م. وقد استنتج الكهنة هذا التاريخ من جَمْع أعمار الأجيال المتتابعة من أبناء آدم، كما جاءت في التوراة في سفر التكوين. سوف تكون نهاية العالم (أي يوم القيامة) في تاريخ ليس ببعيد، عام 4004 ميلادية. وذلك لكي تتوسط حياة المسيح تاريخ العالم. خلق الله العالم من العدم في لحظة ما في الماضي، تمامًا كما يصنع البشر المنازل والآلات والأثاث . والفارق الوحيد هو أن الناس تصنع ما تصنع من مواد موجودة سلفًا. يسير العالم طبقًا لخطة إلهية مُحكمة؛ فكل شيء في الكون له هدف وغاية (الغائية). فقد خُلقت الشمس لكي توفر النور للإنسان خلال النهار، بينما يُزَوِّده القمر بالضياء ليلاً ، كذلك يظهر قوس قزح ليُذَكِّر الإنسان بوعد الله للنبي نوح بألا يُدَمِّر الجنس البشري مرة أخري عن طريق الطوفان. وإذا كانت هناك أشياء مقززة ، كالحشرات والثعابين والقاذورات، فقد تكون عقابًا للإنسان علي خطيئته الأصلية، حين عصي آدم ربَّه وأكل من الشجرة. وفي النهاية، لا يمكن لعقل الإنسان الكشف عن جميع أسرار الخطة الإلهية. ولكن عليه أن يثق كل الثقة في أن لكل شيء غرضًا. يمثل العالم نظامًا أخلاقيًّا، وهذه الفكرة بالغة الأهمية في التاريخ العقلي والروحي للجنس البشري. وهي تعني أن القيم الأخلاقية (كتحديد الخير والشر) مطلقة يحددها الإله، وليست نسبية تعتمد علي رغبات البشر ومصالحهم ومشاعرهم. رجال الكنيسة هم الواسطة بين الإله وبين الناس، في قبول التوبة والحصول علي الغفران، ودخول الجنة. ثم وقعت الطامة الكبري، عندما أعلن كوبرنيكوس (بحساباته الرياضية) وأثبت جاليليو (بتلسكوبه) أن الأرض ليست مركز الكون ، بل هي مجرد كوكب تابع يدور حول الشمس. لقد دفعا ثمنًا غاليًا لعلمهما وشجاعتهما، إذ تبنت الكنيسة حملة شعواء لاضطهاد وتعذيب وقتل العلماء باعتبارهم من السحرة والمشعوذين. وبلغت الجهود العلمية ذروتها بفضل عبقرية إسحاق نيوتن (2461 7271م) التي أتمت إرساء أسس العلم الحديث. لقد كان نيوتن مسيحياً ورعًا، ولاشك أنه كان سيصاب بالهلع لو شعر أن إنجازاته العلمية سوف تُقوِّض أركان الإيمان الديني في الغرب. وقد شبه الفيزيائيون النظام الشمسي (كما شرحه نيوتن) بالساعة الزنبركية، التي تُملأ تم تُترك لتعمل تلقائيًّا. إن قوة الجاذبية، وقوة الطرد المركزية وقوانين الحركة، كفيلة بالمحافظة علي عمل النظام الشمسي دون التدخل من قوي خارجية. لذلك أجاب الفلكي "لا بلاس" نابليون عندما سأله عن دور الإله في النظام الكوني، بأنه لا يري حاجة للقول بهذا الافتراض!! لكن، كيف تسببت هذه الاكتشافات (وغيرها كثير) في الصراع الذي نشب بين العلم والدين في أوربا؟ نجيب فنقول: تتلخص أساسيات الدين في ثلاث نقاط، نطلق عليها "النظرة الدينية للعالم": هناك إله خلق الكون. هناك خطة كونية وغرض كوني للخالق من الخلق (الغائية). العالم يمثل نظامًا أخلاقيًّا يحدده الإله. ومن المؤكد أنه منذ بداية الثورة العلمية في القرن السابع عشر ذ وحتي الآن ذ لم يظهر اكتشاف علمي واحد ولا وُضعت فكرة منطقية تعارضت مع هذه الأساسيات، التي لولاها لأنهدم الدين. ومع ذلك، فإن الثورة العلمية كان لها بالفعل اثر مدمر للدين؛ إذ أعقبها مباشرة نزعة شَكِّية إلحادية كبري، جعلت من القرن الثامن عشر أكبر عصر للشك في التاريخ الحديث، حتي أن ملك إنجلترا كان يشكو من أن نصف أساقفة كنيسته ملاحدة!