اعتبر الإغريق الكون مكون من ذرات أبدية, ثم تحركت ذرة من تلقاء نفسها واصطدمت بغيرها وظلت في حركة دائبة, وتطورت حتي ظهرت مكونات الكون. ثم جاء علماء النهضة ونظروا للكون كآلة أبدية. وفكر النهضة هو مجموعة نظريات مترابطة تقول بالأصل المادي للكائنات والظواهر الطبيعية, ويمكن تفسير كل الأحداث والحقائق بواسطة الأجسام والمادة وحركتها. فوضع لاميتر كتاب الآلة البشرية وهولاخب كتاب منظومة الطبيعة, واعتبربإسحاق نيوتن الكون آلة ضخمة كساعة عملاقة وجدت أو خلقها الله وأطلقها للعمل واختار ألا يتدخل في أحداثها اليومية. وافترض الابلاس أنه إذا وجد عقل جبار يلم بكل تفاصيل الكون الآلي في لحظة ما, فإنه يستطيع توقع أحواله في اللحظة التالية. وفسر داروين ظهور الكائنات الحية وتطورها من المادة تلقائيا دون إله خالق. وفسر الافوازييه وجون دالتون كل الظواهر الطبيعية بالمواد والتفاعلات الطبيعية والكيميائية بينها. ووضع ماركس وانجلز نظريات مادية لتفسير الظواهر والتطورات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية.وهكذاأصبح لدي الفكر الغربي ترسانة كاملة من النظريات المادية تدعي تفسير كل الظواهر الكونية والمادية والبيولوجية والإنسانية, دون فرضية وجود الله. إذا كان الكون آلة وكانت الظواهر الطبيعية تعمل بصورة ميكانيكية, يمكن فهمها بالمنطق والمشاهدة, فيمكن أيضا فهم وتفسير الاقتصاد والتاريخ والسياسة والأخلاق والقيم والشخصية الإنسانية التي تعمل بصورة آلية بنفس الطريقة دون إقحام الدين أو الله.وهذا يعني إمكانية التلاعب بها وهندستها كآلات, أي جعلها أحسن وأكثر تطورا. واستلزم هذا اعتبار الروح والمعني والضمير والأحوال النفسية والعقلية للإنسان ظواهر منبثقة عن المادة وتغيرها وعملياتها, وإنكار أو إهمال وجود الله كوجود لاحاجة له. وحاول بعض مفكري القرن السابع عشر التوافق مع المسيحية, بالاعتراف بالأصل المادي للكون, ولكن مع وجود إله خالق للمادة متباعد عنها. ظهر المذهب الهيوماني ليركز علي الحلول الإنسانية للقضايا البشرية من خلال الجدل المنطقي دون اللجوء إلي فكرة الإله أو النصوص والمعتقدات الدينية: فالكون لم يخلق ولكنه موجود منذ الأبد.والإنسان جزء من الطبيعة وجد نتيجة عملية تطور تدريجية مستمرة. وأن الطبيعة المزدوجة للإنسان (جسد وروح) أسطورة. وأن التدين ظهر نتيجة تفاعل الإنسان مع البيئة والمجتمع والأحداث الثقافية. والعلم الحديث لايؤيد فكرة وجود متجاوزا للطبيعة أو وجود أية قيم إنسانية, حيث تجاوز العصر أفكار الإيمان والتدين والأخلاق المطلقة وكل الأفكار القيمية, فالبشر وحدهم يحددون القيمة والأخلاق وليس أي مصدر آخر متجاوز للدنيا وللحياة. وظهر مفهوم جديد للكرامة الإنسانية, مبني علي الأداء الفردي المتميز في الحياة, وقلت أهمية التطلعات الدينية والدين في مقابل إعلاء قيمة وأهمية الإنجاز المادي والرغبة الجامحة في التمتع بالرخاء والنجاح.وبعد أن كان الإنسان عبدا لله تشكله الكنيسة كيفما تشاء, أصبح هو نفسه مثل الإله, صانعا لقدره ولمستقبله ولتاريخه. ركزت النهضة علي الفرد, وقدرته علي التغيير والتطور, وعلي التخلص من أغلال الكنيسة وفكرها المتحجر الذي يعارض المنطق والشواهد العلمية. وتميز عصرها بالنمو السريع للثروة والاقتصاد, والحكومة المركزية, والرغبة العارمة في التمتع فورا بمتع ومباهج الحياة. وأصبح الإنسان صانع قدره وسيد نفسه, وليس للكنيسة ولا لأية معتقدات قديمة أن تقيد حركته وحريته وتصوغ فكره. وتطلع الهيومانيون في إنجلترا وألمانيا إلي المعرفة والقوة, لا إلي الجمال والأخلاق. وساهمت الحروب الدينية في القرن السادس عشر في خلق حركة عامة ضد الخرافات والتعصب الديني والمعتقدات الدينية الجامدة. وانطلق الأفراد يبحثون ويكتشفون ويجربون. وأدي هذا إلي نمو العلم التجريبي الغربي المبني علي فكرة آلية الكون المادي والاجتماعي والاقتصاد والسياسة والأخلاق والتاريخ, وعلي انفصال مجالات المعرفة بعضها عن بعض, فالطبيعة لا تفسر السياسة, والأخلاق لا تفسر الكيمياء ولاتضع ضوابط علي الاقتصاد. وهذا الانفصال أدي إلي تطور مجالات المعرفة بمعزل عن بعضها. وقد استحدث مجموعة من فلاسفة التنوير الفرنسيين علم الاقتصاد الغربي, فأخذوا فكرة آلية الكون وطبقوها علي العملية الاجتماعية لإنتاج وتوزيع السلع والخدمات والنشاط التجاري. ويعرف الاقتصاد بأنه عملية تحليل نشاط إنتاج وتوزيع السلع, يتعين إجراؤها بمعزل عن أية معرفة إنسانية أو عقدية. وهدف ومعني الحياة البشرية في الفكر الاقتصادي, هو العمل المنتج وتوزيع السلع والخدمات. وليس هناك اقتصاد دون مبدأ فصل السلوك الاقتصادي عن أي سلوك آخر. فالاقتصاد اختراع ثقافي وليس علما موضوعيا صالحا لكل زمان وثقافة. فلا يمكن فصل الفكر الاقتصادي في أي حضارة عن طرق الفكر الأخري السائدة فيها. وجهود البشر موجهة دائما لتحقيق تحسن دائم في أحوال البشر, أي تحقيق التقدم والمجتمع مكون من أفراد في سعي دائم لتحقيق مصالحهم الشخصية, وبهذا السعي, يتم تحسين العالم. والنشاط التجاري هدفه إنتاج الثروة وتحقيق الفائدة الشخصية, وفي معرض السعي إليها وتحقيقها يستفيد الجميع. ولأن الأفراد مستقلون, فيجب ترك الحرية لهم في تصريف حياتهم وشئونهم وتحقيق منافعهم الشخصية,دون تدخل من الحكومة, حتي تتحقق زيادة ثروة الأمم. والتجارة تزيد من إنتاجية العمال, وتدخل الحكومة يفسد عملية زيادة إنتاجية العمال. وعرف هذا بمبدأ( دعهم يعملون). وإدخال الأخلاق في الاقتصاد يفسد آليته لأنها لاتقبل الحساب والتنبؤ; ووصف ماركس هذا بتهويد المجتمع أي تحويل علاقاته من التراحم الدافئ إلي التعاقد البارد. وكانت الرأسمالية ترجمة لهذا الفكر المتحرر من القيم. فكيف نعيد الأخلاق إلي الاقتصاد؟. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم