في الأدبيات الإغريقية القديمة أمثولة، مفادها أن آلهة الأوليمب أوحت لعرافة المعبد أن ".. سقراط أحكم البشر" . فقال الحكيم معقبا ً : ذلك لأنني أعلم الناس بجهلي . فيما بعد قال شاعرنا العربي أبو العلاء المعري : كلما أدبني الدهر ُ / أراني ضعف َ عقلي / فإذا ما ازددت ُ علما ً / زادني علما ً بجهلي . هذا الوعي بمحدودية العقل البشري إزاء الكون غير المحدود، هو حسب ُ سر تقدم الأمم والأفراد .. فلولا الإحساس بالجهل ما أوغل أحد في بوادي المعرفة عساه يعثر علي بئر ماء زلال فيها، وما غاص في أعماق بحورها علماءُ(لا غش فيهم) ليخرجوا علي الناس ب.. بعض لآلئها . ولولا هذا النزال المستمر بين التعلم والتجاهل لأغلقت جفونها الجامعاتُ ومراكزُ البحث العلمي، وفصلت من الخدمة عقولها، ضاربة بدفوف الختام وهي تجمجم: عرفنا كل شيء ! بالطبع لا يمكن لمثل هذا القول السفيه أن يصدر عن مؤسسة تعليمية في الغرب أو في الشرق، فما بال أقوام لدينا يوقنون بأن "علماءنا " لديهم العلم الكامل، بينما علماؤنا" أولئك لايزالون يرتشفون عصائرهم من أكواب قروننا الوسطي، منتشين ِبرُغوتها المعرفية الأسطورية عن أصل الإنسان، الذي هبط علي الأرض عام 4004 ق. م ! وعن بناء الهرم الأكبر بيد فرعون يدعي الوليد بن الريان! وعن جدارة النظام الفلكي القائل بأن الأرض ساكنة لا شيء تحتها، تطلع الشمس عليها صباحاً من ظلام مجهول، وتسقط عنها مساء ً في بحر لجي ! وبينما يعترف "علماؤنا" بخلو جيوبهم من أي براهين أو إثباتات تجريبية علي ما يقولون، تراهم يرفضون بشمم ٍ أعمالَ ونظرياتِ البيولوجيين والفيزيائيين أمثال داروين ونيوتن وآينشتين وماكس بلانك ونيلز بور، معرضين حتي عن تفحص براهينهم القابلةٍِ - بحسبانها علمية - للتكذيب، أو للمصادقة إذا عز دحضها . "علماؤنا" المعاصرون لا يكلفون أنفسهم عناء الفحص والاختبار، ولماذا يفعلون وهم علي يقين من حيازتهم للمعرفة الكلية ممهورة بتوقيع الخليفة القادر( مؤلف ما أسماه العقيدة الصحيحة ! ) ومختومة بختم دولة ابنة الخليفة القائم مهندس مؤسسة الإرهاب الفكري في العصر العباسي الثاني . هل يمكن لمخلوق أن يحصّل المعرفة الكلية ؟ سؤال لا يصدر إلا عن جاهل محترف .. خذ مثلا ً شخصاً عقد العزم علي أن يعرف كل شيء عن عالمنا هذا، تري ماذا يفعل ؟ يدرس جغرافية الأرض والتاريخ الطبيعي للكوكب، ضمن نظام المجموعة الشمسية، ضمن نظام مجرة درب التبانة، ضمن السدم اللانهائية في الكون، ليعرج علي تحليل المادة التي منها ُبني هذا الكون ُ : ذرات وإلكترونات وبروتونات ونيوترونات وكواركات، في ظل القوانين الحاكمة لها كالجاذبية والضغط والحرارة.. بعدها لا جرم يعود إلي دراسة الكائنات الحية التي عاشت علي كوكبه بدءاً من الأميبة إلي الإنسان، فتقوده دراسة البيولوجي إلي الفسيولوجيا والأجهزة العصبوية (النيروبيولوجي) وعلاقتها بنظام اللغة وانبثاق الوعي بشطريه الظاهر والباطن، ثم عليه بعد ذلك أن يدرس التاريخ البشري تفصيلا ً منذ أن تكونت المجتمعات البدائية وحتي ظهور الأمم والدول الحديثة . وفي هذا السياق لا مندوحة أمامه من معرفة أسباب تطور بعضها وتخلف البعض الآخر، وهو ما يقتضي الوعي بقوانين الاقتصاد، وآفاق الفلسفة، وفخاخ الأيديولوجيات ليتسني له تفسير كيفية نشوء (واختفاء) الإمبراطوريات والدول بمذاهبها السياسية والدينية والفنية والأدبية التي تمثل رأس المال الرمزي لأي تجمع بشري. آتني بمثل هذا الشخص لأجلسه مكان "زيوس" كبير آلهة الأوليمب الإغريقي تقديرا ً لعلمه الكلي غير المحدود!، وأيضا كي أعارضه - في الوقت نفسه - بمثل ما عارضه سيزيف الذي رفض الخضوع للموت ، وبرومثيوس الذي سرق النار من السماء ليعطيها للبشر، واسكليبوس الذي علّم الناس َ الطب َ ليدرأ عن أبدانهم الآلام.. هؤلاء المعارضون ومن سار علي دربهم أمثال سبارتاكوس ومارتن لوثر وفولتير وروسو وماركس وغاندي ومانديلا إنما كانوا من طليعة المطالبين بالحرية في مواجهة ما ُيظن أنه الضرورة الكونية: الموت، العجز، المرض، العبودية، الشقاء ...الخ أو في مواجهة ما ُيروج له الطغاة ُ بما ُيسمي الضرورة السياسية : حكم الفرد، العائلة، الفئة، الطبقة..إلخ أو ما يخضع له العامة علي أنه واقع بالضرورة الاقتصادية : النظام الإقطاعي، الرأسمالية .. إلخ أو الضرورة الاجتماعية : وضع المرأة كمخلوق أدني، أنسقة الزواج والطلاق المفتقرة للمساواة، أساليب تربية الأطفال(بضربهم، وتشغيلهم مبكرا ً لتخفيف الفقر عن ذويهم !)..الخ وجميعها " ضرورات " زائفة، منذورة للتجاوز بالثورات العلمية والإصلاحات الراديكالية أو تدرجاً مع الوقت. اليأس التاريخي من التحرر مشكلة المعرفة عند العقل العربي تكمن في يأس شعوبه من التحرر، وربما يعود هذا اليأس إلي اطراد الزمن الذي حاق بهم استبدادا ً من قبل أنظمتهم شبه الإقطاعية، بأيديولوجياتها الجامدة المتحجرة، والمتقنعة في آن بقناع "المقدس" . ولعل أبشع ما في الإقطاع قدرته علي تدمير وعي"أقنانه" حتي لتراهم ينفرون ممن يأتيهم بأي معارف قد تساعدهم علي التحرر. في ظل الإقطاع العسكري العربي تضافرت عوامل سياسية واقتصادية شتي لحصار القوي الاجتماعية الراغبة في التقدم والتحرر، فالبرجوازيات العربية التجارية اضطرت، فيما بين القرنين الحادي عشر والسادس عشر للانكفاء داخل أسواقها المحلية بفعل الحروب الصليبية، وبالذات بعد أن فقدت العسكريات العربية سيطرتها علي البحر المتوسط وبحار الشرق، وبعد أن خسرت البرجوازية حتي تجارة الترانزيت بتحول التجارة الدولية إلي طريق رأس الرجاء الصالح، وكان انعكاس ذلك علي الحياة الفكرية مدمرا دون شك، فلقد أجبرت المعتزلة (التي كانت تعبيراً فكريا عن صعود البرجوازية في وقت سابق) علي إخلاء الساحةَ للثقافة المعبرة عن حالة الانحسار : ثقافة الفكر الأشعري المحافظ، والفقه الحنبلي المتزمت، فكان هذا هو الإرث الخاسر الذي تسلمه "علماؤنا" المعاصرون، ومازالوا يضاعفون من خسارته وفاء أو عنادا. الدين غاية أم وسيلة؟ واحد من هؤلاء - لعله أكثرهم قابلية للحوار- صرح منذ أيام في برنامج تليفزيوني بأن الغرب يضع علي قمة هرمه مبدأ الحرية، كل إنسان حر تماما ً فيما يعتنق وفيما يفعل، شريطة ألا يجور بذلك علي حق الآخرين . ثمة لا يجوز لجماعة أن تغلق شارعا ً، تعطل فيه المرور ممارسة طقس ديني (فأين المسجد والكنيسة والبيت؟) أو لموظف أن يتوقف عن أداء عمله بنفس الذريعة (فلماذا يطلب راتبه كاملا ً آخر الشهر؟) أو لبرجماتىّ أن يدمر بمكبر صوتٍ أجهزةَ مواطنيه السمعية لكي يذّكرهم بموعد صلاة (فما وظيفة المآذن؟) أو لصائم أن يوبخ ويؤثم من ليس بصائم (أفلا يدفعه بذلك لتعلم الجبن والنفاق؟) يقول عالمنا الفاضل: أنا أتفهم منطق الغربيين، بيد أننا هنا نضع الدين - وليس الحرية - علي قمة هرمنا . هكذا وبضربة واحدة فصل عالمنا العربي بين الحرية كقيمة إنسانية عليا وبين الدين، وكأن الحرية والدين نقيضان. ولو تدبر فضيلته، لأدرك أن الحرية غاية، والدين وسيلة، ومن ثم لا وجه للتصادم بينهما . فالدين في اللغة هو اسم لجميع ما يعبد به الله، وهو أيضا ً الطريقة والمذهب، فهل يتخذ امرؤ مذهبا ليكون هدفا ً في حد ذاته؟ أم ليتوسل به كي يحقق أغراضه؟ أنا لا أذهب إلي القاهرة لأستقل القطار، بل أركب القطار لأصل إلي القاهرة، كذلك الدين: طريقة للوصول إلي الله وليس العكس. يقول الله في سورة الانشقاق. يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا ً فملاقيه. وفسر الإمام النسفي الكدح بمجاهدة النفس في العمل. علي أن العمل المتقن لا يتجلي بغير التعلم المستمر الدءوب، الذي به أدرك سقراط وأبوالعلاء أننا جميعا ً جهلاء؟ وبما أننا نعيش الآن عصر المعرفة العلمية، عصر التحرر من الضرورة ؛ فلا مناص من أن نشمر عن سواعدنا لنتعلم جديدا ً في كل الميادين كل يوم، بل وكل ساعة، كادحين ما استطعنا لنلاقي وجه الله (الذي له المثل الأعلي) دون خشية من كلمة الحرية .