لقد كانت أسرة (أمي) من أبويها جميعا كردية قريبة عهد بالقدوم من ديار بكر، وقد رأيت أحدهم لا تميزه عن أمم الشمال في لونه وقامته ، وقد بقي بعض منهم إلي أيام طفولتنا نعاكسه حين ندعوه إلي أكلة (ملوحة) أو ملوخية، لأنهم لم يتعودوا أكلها. أجداد أمي جميعاً قد تزوجوا في السودان. وكان جدها لأبيها وجدها لأمها في الفرقة الكردية التي توجهت إلي السودان بعد حادثة إسماعيل بن محمد علي الكبير، وهناك عاش عمر أغا الشريف قبل قدومه إلي أسوان، وهو جد أمي لأبيها، وأبوها محمد أغا الشريف الذي اختار (أطيان) للمعاش في قرية من قري الإقليم. والذي يتذاكره كبراء السن الأسوانيون عن عمر أغا الشريف أنه كان رجلا شديد التقوي، شديد القوة البدنية، يدرب أبناءه علي الرياضة العسكرية كأنهم علي الدوام في خدمة الميدان. ولد له محمد وعثمان ومصطفي وحورية وفاطمة. وخطبت حورية وفاطمة فأراد أن يحتفل بزواجهما معا، ثم علم أن خطيب فاطمة لا يصلي فأبطل الخطبة في اللحظة الأخيرة، وقال للوسطاء الذين حاولوا أن يصلحوا الأمر : أني لا أزوُج ابنتي لتارك صلاة ولا لمحدث نعمة، كلاهما يجحد نعمة الله. وشاعت حوادث ( العبد) قاطع الطريق في الصحراء. وخافه الجند وهابه تجار القوافل : فقال عمر لأصغر أبنائه مصطفي : أتسمع هذا وتترك العبد يعيث في الأرض فساداً ؟. فما انقضي أسبوع حتي عاد مصطفي بالعبد مكتوف اليدين. وقد مات مصطفي هذا علي أثر ضربة من ضرباته أغراه بها فرط قوته، فأنه تصدي لثور هائج فقمعه وألقاه علي الأرض، فلم تنقض أيام حتي لقي نحبه، وقيل إنها حسد.. ولعلها كانت مزقة في داخل الجسم من ذلك الجهد العنيف.. *** أما محمد أغا جدي لأمي فقد كانت فيه تقوي أبيه وصلابته وكثير من أنفته واعتزازه بكرامته، وقد كان يمزج هذه الأنفة بالعمليات ولا يقصرها علي القول أو السلوك. ذهب إلي قري الأقاليم ليختار أطيان المعاش، فكان كلما سأل عن زراعة أرض فقالوا له إنها عدس أو فول.. قال : لا شأن لي بها، حسبنا من العدس والفول ما أستوفيناه في السنجق، أي الفرقة العسكرية... حتي جاء إلي أرض قيل إنها تزرع قمحاً أو شعيراً، فقال هذه أرضي : القمح لمحمد أغا والشعير لحصانه !.. وأختارها مع ما بينها وبين الأطيان الأخري من فرق في الثمن يبلغ ثلاثة أضعاف..! *** ورثت أمي تقواها وسلامة بنيتها من أبيها وجدها، ففتحت عيني أراها وهي تصلي وتؤدي الصلاة في مواقيتها، ولم يكن من عادة المرأة أن تصلي في شبابها. إنما كانت النساء لا يصلين إلا عند الأربعين. ومما ورثته عن أبويها حب الصمت والإعتكاف.. كان الناس يحسبون هذا الصمت والإعتكاف عن كبرياء في جدي رحمه الله، وكانوا يقولون إنها " نفخة أتراك " ! لكنها لم تكن " نفخة أتراك " كما توهموا، بل كانت طبيعة تورث وخلقة بغير تكلف، ولم أر في حياتي امرأة أصبر علي الصمت والإعتكاف من والدتي. فربما مضت ساعة وهي تستمع من جاراتها وصديقاتها وتجيبهن بالتأمين أو بالتعقيب اليسير، وربما مضت أيام وهي عاكفة علي بيتها أو علي حجرتها، ولا تضيق صدراً بالعزلة وإن طالت، ولا تنشط لزيارة إلا من باب المجاملة ورد التحية. و من المصادفة اتفاق والدي ووالدتي في هذه الخصلة، ولست أنسي فزع أديب زارني يوماً وعلم أنني لم أبرح الدار منذ أسبوع، فهاله الأمر كأنه سمع بخارقة من خوارق الطبيعة. إنها وراثة من أبوين، يؤكدها الزمن الذي لا يحمد فيه معاشرة أحد. إلا من رحم الله ! *** و قوة الإيمان في والدتي هي التي بنت فيها العزيمة ليلة احتضاري.. ! نعم أيها القاريء الكريم ولا تعجب... فقد احتضرت قبل نيف وثلاثين سنة، كما تخيّل عوادي في تلك الليلة، فإذا بالوالدة هي الإنسان الوحيد الذي يتحامل علي نفسه إلي جانب سريري ليقنعني أنني بخير.. وتنطوي علي ذلك ساعات وهي علي عزيمتها، حتي جاء الطبيب أخيراً وأنبأهم أنه عارض غير ذي بال، فإذا المحتضر قد نجا، وإذا بالمؤاسية قد سقطت مغمي عليها. و كانت الوالدة لا تنكر من شئوني إلا الورق.. نعم : ما هذا الورق ؟ الورق الذي لا ينتهي ! هذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يمرضني، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يصرفني عن الزواج، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو سبب الشهرة... ووالدتي أيها القاريء من أعداء الشهرة تتطير بها ولا تغتبط بها لحظة إلا تشاءمت لحظات. هذه الشهرة هي التي " تشيل غارتك " أي تجعلهم يتحدثون عنك، وما تحدث الناس عن أحد وسلم من ألسنة الناس ! *** و قلت لها ذات يوم : لو وجدت لي زوجة مثلك تزوجت الساعة..! ولم أكن مجاملاً ولا مراوغاً. فإنني لا أنسي كمال تدبيرها لبيتها منذ صباها، وكنا بفضل تدبيرها هذا ننتفع بالجورب حتي بعد أن يرث ويبلي.. فإنه يصلح عندئذ كرة محبوكة !.. ويغنينا عن شراء الكرات التي لا تحتمل أقدامنا مثل احتمالها ولقد توفي والدي وهي في عنفوان شبابها، وكان لي أخ صغير فتوفرت علي تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا وأبنائها الكبار. ولقد ورثت منها كثيراً إلا القصد في النفقة، وتدبير المال، وحسبي بحمد الله ما ورثت عنها.