عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي لم يعثر في كلام أحد المتصوفة علي تعاريف الألفاظ الصوفية مثلما عند ذي النون.. تكلم في كل شيء من معرفة وعارف, وأنس ووجد وسماع وتوبة وإخلاص وتقوي وورع وتوكل وغفلة وخوف.. إلخ. وكلامه أغلبه في المحبة وأشواقها ولواعجها والحبيب والغيبة والوصال ويؤسس كل الذنوب علي النظرة ومن النظرة تكون الحظرة فإن تداركتها ذهبت وإلا امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة ثم الطلب. وذو النون هو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم, ولد في أخميم بمصر وتتلمذ علي يد الإمام مالك(353283 ه) وكان أبوه نوبيا وكان أوحد عصره علما وورعا وحالا وأدبا قال فيه المستشرق نيكلسون: هو أحق رجال الصوفية علي الإطلاق أن ينسب إليه أنه وضع أسس التصوف. ويقولون عنه في كتاب نفحات الأنس: هو رأس الصوفية فالكل قد أخذ عنه وانتسب إليه وكان أول من فسر إشارات الصوفية وتكلم في هذا الطريق وكان أول من تكلم في مصر عن الأحوال والمقامات ومقامات أهل الولاية وأول من عرف التوحيد بالمعني الصوفي وكان له أكبر الأثر في تشكيل فكرة الصوفية. وقيل في اسمه ذي النون لأنه امتحن في دينه مثل النبي يونس وأوذي كثيرا لكونه أتي بعلم جديد هو علم التصوف ولقبوه بأبي الفيض لما له من مواهب فيضية ونسبته المصري عند غير المصريين من الصوفية لكثرة أسفاره لطلب الإخوان وكان هو أيضا ينادي الصوفية يا خراساني ويا بصري ويا كوفي..إلخ. وكان لذي النون غرام بالطبيعة فيحكي عنه أنه بينما هو سائر علي شاطئ نيل مصر أو سائر بين الأشجار وكان كثيرا ما يدعو وفي دعواته أرق الأوصاف للطبيعة مثل قوله: إلهي ما أصغي إلي صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنم طائر ولا تنعم ظل ولا دوي ريح ولا قعقعة رعد إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك دالة علي أنه ليس كمثلك شيء!! ويقول في دعاء آخر وقد نظر إلي السماء والماء علي ساحل البحر عند صخرة موسي: سبحان الله ما أعظم شأنكما بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما. لم يتزوج وكان دائم التحذير من النساء ومن شهوة الفرج وتكثر في حكاياته لقاءاته مع نساء تقيات ورعات شاعرات محبات لله. ومما يروي عن لقاءاته بالنساء سلامه علي جارية التقي بها في جبال الشام سألته: أي شيء السخاء: قال: البذل والعطاء, قالت: هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين: قال: المسارعة إلي طاعة المولي, قالت: فإذا سارعت إلي طاعة المولي تحب منه خيرا؟ قال: نعم, قالت: المسارعة إلي طاعة المولي أن يطلع علي قلبك وأنت تريد منه شيئا بشيء!! ويحك يا ذا النون! كأجير السوء, إذا عمل طلب الأجر, لكن اعمل طلبا لهيبته عز جلاله! ويعتبر ذو النون المحبة ميزة الإنسان, وهي سر الله أودعه في القلوب, وإلا كان الإنسان بمنزلة البهيمة, وعندما اتهموه بالزندقة, أمر الخليفة المتوكل باستحضاره من مصر إلي بغداد مكبلا في الحديد, يحكي أنه لقيته امرأة فقالت: إذا دخلت علي المتوكل فلا تهبه, ولا تر أنه فوقك ولا تحتج لنفسك محقا كنت أو متهما, لأنك إن هبته سلطه الله عليك, وإن حججت عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالا, فلما مثل بين يدي الخليفة أظهر من القوة والبصر والأدب الجم والموعظة الحسنة ما هز مشاعر الخليفة فأكبره وكرمه وأعاده إلي مصر موفور الإجلال والإكرام وكان هذا في الواقع إكراما لمصر ذاتها في شخص فتاها وعالمها وزاهدها وصوفيها الأكبر. وله في التواضع رأي إذا طلب أحد منك أن تكون متواضعا يقول: إن سؤاله إياك أن تتواضع يدل علي تكبره في الباطن, وتواضعك له يكون عونا له علي أن يتكبر. وفي شعره رقة وقوة إيمان يقول: أموت وما ماتت إليك صبابتي ولا رويت من صدق حبك أوتاري مناي المني كل المني أنت لي مني وأنت الغني كل الغني عند إقصاري وأنت مدي سؤال وغاية رغبتي وموضع شكواي ومكنون إضماري