تناولنا في المقال السابق بعضا مما قد يدور بخلد معظم أبناء الوطن من أفكار حيال مشروع القناة الجديدة مثل إزكاء الوعي القومي وقضية التمويل الشعبي فضلا عن توظيف الإمكانات البشرية المحلية, و جميعها لا ترقي لمرتبة المخاوف إلا من حيث توجيه النظر والاهتمام لمشروع المليون و نصف المليون فدان علي حساب مشروع القناة التنموي الذي كان منطلقا لشرارة الأمل التي لاتزال مشتعلة الجذوة. و يبقي في السياق نفسه عدد من الأفكار التي ترتبط بهذا المشروع القومي الذي ما أحوجنا في هذه الأيام أن نقيل به وطنيتنا من عثرتها الإحباطية التي يحاول البعض الترويج لها هذه الأيام. وتأتي في مقدمة الأمر قضية الوجود الأجنبي وأحسب أنها منذ وجود مندوبي الدائنين الشرعي و حتي يومنا هذا قد اتخذت أشكالا عدة منها ما هو إقتصادي أو سياسي أو ثقافي, حيث المهم الحضور الذي تحكمه المصلحة أو بالأحري القدرات السيادية الوطنية. بيد أن الوجود العربي والإقليمي علي الساحة وبعيدا عن مسألة الإقراض أو المعونات, فإن ما قدمته وما سوف تقدمه قناة السويس سيجعل لتنوع الوجود الأجنبي أبعاده العربية و الإفريقية و الدولية و هو ما سينعكس بالطبع علي طبيعة تمثيلنا الدبلوماسي الخارجي. و هكذا تقدم لنا صفحة القناة قراءة لمفردات علاقاتنا الدولية لا يعدلها داخليا سوي تحول حفر القناة في وجدان الوطن إلي حفائر لاستخراج واستكشاف أفضل ما لدينا من ميراث قيمي عبر التاريخ الإنساني, حيث تأبي الأقدار بالمشيئة الإلهية إلا أن تجعل لمصر دوما يدا عليا علي الإنسانية جمعاء. وفي حديث الماضي وما هو من الزمان آت تحضرني تلك المفارقة التي لم تجعل ثمة رؤية استثمارية منتظمة تواكب الحدث في القرن التاسع عشر, حتي أن إنشاء مدن القناة قد خرجت أهدافه المرتبطة بقناة السويس عن النص في العديد من المواقف. بحيث يخال للمرء أنه لولا وجود مبني الهيئة هناك لتناسينا رباط الحبل السري بين القناة و مدنها بعدما كادت تعبث به حمي الانفتاح و أخواته. ومن ثم قالمقارنة بالطرح المستقبلي إنما تدفعنا نحو رؤية جديدة تخرج بمفهوم الاستثمار والتنمية من شرنقة الانكفاء علي الذات إلي الآفاق الرحبة ذات الرؤية التكاملية. ويبقي في ذات السياق قضية الثقافة الجديدة المنتظرة من بعث الحياة في القناة بتجديد شبابها وما حولها, إنها قضية في منتهي الأهمية ليس بحكم احتكاك مريديها بجنسيات متباينة, فتلك مسألة ترتبط بالاستيطان و من ثم الاستقرار اللذين لا يتوفران لعابري سبيل القناة جيئة ورواحا. و لكنني أتحدث عن القدرة الثقافية القادرة علي صهر الثقافات المحلية للعناصر الوافدة للعمل المستدام بالمنطقة. إنه أحد التحديات الحقيقية التي يمثل نجاحها واحدة من أهم نتائج الحدث غير المباشرة. فجميعنا يعلم أن الثقافات المحلية إن لم تكن قيمة موجبة مضافة للكل الثقافي فإنها تصبح عائقا لأية خطط تنموية أو أهداف إستراتيجية, بحكم هيمنة العادات والتقاليد أو التعصب الإقليمي أو التباين البيئي. كما أن توفير المنتج الثقافي المصري لعابري القناة بكل مفرداته الجوهرية و الفرعية وبشكل مستدام يمثل ضرورة واجبة لا نوافل فيها. وهذه جميعها تحتاج بالفعل لخطط موازية للخطط الاستثمارية حتي تظل المنطقة أنموذجا للإعلاء من قيمة البشر حال حسن تفاعله مع مكونات الحجر, أملا في أن تصبح المنطقة كما يرجي منها عنوانا لمصرية جديدة قادرة علي التخلص من أكياس الرمال تطلعا لتحقيق الآمال.. و عسي أن يكون قريبا.. ( إشراقات السعدي81): قد يدعي البعض استعداده للموت في سبيل الوطن بالحق أو بالباطل, أما أن يتصور البعض إمكانية موت الوطن من أجله فذلك عين الباطل. أستاذ الحضارة المصرية القديمة كلية الآداب- جامعة الإسكندرية