إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها, سيظل الشرق شرقا والغرب غربا, لذا لن يأبه أقباط مصر بتحريض بابا الفاتيكان ولابتحريض غيره من ساسة الغرب, من منطلق مقولة البابا شنودة الثالث المعروف بمواقفه الوطنية والعروبية إن مصر وطن يعيش فينا, وليست وطنا نعيش فيه والذي أصبح قولا مأثورا, يردده مسيحيو مصر ومسلموها علي حد السواء. وتسمح لنا هذه المقالة بل تفرض علينا, أن نضع القضية وضعا يجعلها جزءا من التاريخ, بغية تبصير مسيحيي الشرق عامة ومسيحيي مصر علي وجه الخصوص بالحقائق التي لا مناص من إدراكها, ويأتي في مقدمتها من حيث الأهمية, أن المسيحيين في الشرق, لم يعانوا من الاضطهاد إلا في ثلاث حقب تاريخية: الحقبة السابقة للإسلام أيام السيطرة الرومانية والبيزنطية, والحقبة الصليبية, ثم الحقبة التي واكبت السيطرة الغربية علي الشرق العربي. من الحقائق التاريخية, أنه ومنذ بواكير ميلاد المسيحية, وأباطرة الرومان الوثنيين يرون في المسيحيين الشرقيين أكثر الشعوب عنادا وإصرارا, وبالنتيجة اختصوهم بنصيب أوفر من العنت والاضطهاد, وكان ديوقلديانوس يري المسيحية بمثابة أفعي لن يجد لنفسه ولملكه راحة إلا بالقضاء عليها, علي أنه كان يري أن رأس تلك الأفعي في مصر, لذلك جاء لمصر ليقوم بهذا الأمر بنفسه, وأقسم بآلهته أنه سيعمل سيفه في رقاب المسيحيين, ولن يكف عن ذبحهم بيده, حتي تغوص سنابك جواده في بحر دماء المسيحيين. وقد بر بما وعد, ولذلك نعت المؤرخون اضطهاده بأكثر صنوف الاضطهادات عنتا وعنفا, ومن هنا وعلي هذا الأساس جاء ما عرف في التاريخ المصري ب تاريخ الشهداء وفيه تبدأ السنة القبطية, بيد أن ذلك لم يفت في عضد الأقباط, فعاشت الروح الشرقية الصامدة عالية سامقة شريفة, تأبي القهر والاستبداد. ونحن نستطيع أن نتوسع في هذه القائمة ونزيدها طولا, وحسبنا هنا لضيق الحيز الإشارة إلي أن التوتر قد استمر حادا بين الأباطرة الرومان وبين مسيحيي الشرق, حتي بعد أن انقسمت الإمبراطورية الرومانية علي نفسها في سنة395 م, فأصبحت هناك الدولة الرومانيةالشرقية والدولة الرومانيةالغربية, وكانت القسطنطينية حاضرة الشرق المسيحية, كما كانت روما عاصمة الغرب المسيحية, وعلي أية حال, فإن المسيحيين الشرقيين قد تعرضوا للعنت والاضطهاد في العهد البيزنطي الأخير في مصر والشام وشمال إفريقيا علي يد الأباطرة المسيحيين بنفس القدر الذي شهدوه زمن الأباطرة الرومان الوثنيين, ولم يحد من غلوائها سوي فتح المسلمين مصر والشام وشمال إفريقيا, الذين أعلنوا التسامح العام وحرية العقيدة, حسبما تأمرهم بذلك شريعتهم, وقصة عمرو بن العاص مع الأسقف السكندري الهارب معروفة, ويكفينا منها ما سجله ساويرس بن المقفع من قول الاسقف بنيامين بعد عودته: لقد وجدت أمنا من خوف, واطمئنانا بعد بلاء, لقد صرف عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم, وعلي هذه الشاكلة نلحظ أن الغساسنة المسيحيين, الذين كانوا في مشارق الشام. قد حاربوا إلي جانب اخوانهم العرب المسلمين القادمين من الجزيرة العربية ضد البيزنطيين المسيحيين. ذلك أن حضارة بيزنطة تختلف في الطابع والمستوي عن حضارة الغربيين, التي كانت دون الحضارة البيزنطية بمراحل, ولم يكن ذلك مما يساعد علي قيام التفاهم بين الطرفين, مما أسفر عنه حدوث القطيعة الدينية الكبري بين بيزنطة وروما عام1054 م, وقد يكون أمرا مهما ملاحظة أن الحروب الصليبية في نظر البابا أوربان الثاني لم تكن ضد من سماهم كفارا فحسب, بل كانت سعيا من الكنيسة لتثبيت مكانتها ودعم نفوذها علي المسيحيين قاطبة, ولقد وصف التاريخ المذابح التي ارتكبها الصليبيون في بيزنطة, وتدنيسهم للكنائس لاسيما كنيسة القديسة صوفيا ونهبها, وهكذا حطموا تلك الذخيرة الأدبية والعلمية, التي خلفها اليونان والإمبراطورية الرومانيةالشرقية, والتي كانت أعظم وأثمن ما في الشرق وقتئذ من كنوز, واستنادا للمؤرخ جيبون أنه بمجرد استقرار الأمر للصليبيين, بادروا باتهام مسيحيي الشرق بالإلحاد وبالتمرد علي سلطة الكنيسة الكاثوليكية فطاردوهم وحاربوهم في أرزاقهم وطردوهم من أعمالهم, ولاقوا من أولئك الذين زعموا أنهم جاءوا لإنقاذهم من حكم المسلمين, ماجعلهم يقارنون بحسرة بين سماحة الحكام العرب وكرمهم, وبين ما لاقوه من التنكيل علي أيدي حكام الغرب. وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا قول الاميرال نوتاراسي القائد البيزنطي الكبير, حين أحاطت المحن بيزنطة: إن البيزنطيين يؤثرون أن يروا في القسطنطينية عمامة التركي, علي أن يروا فيها قبعة الكرادلة الحمراء. ولم يكن أقباط مصر بمنأي عن ذلك التنكيل, ففي غزوة الفرسان القساوسة لمدينة( بلبيس) كانت مجزرة للأقباط, لاقوا فيها حتفهم علي أبشع صور القسوة دون أن يرحموا الشيوخ من الضحايا ولا الأطفال الرضع والنساء الضعيفات. وهكذا عندما أجبر شيركوه القائد الصليبي علي التراجع إلي قواعده في الاسكندرية, حاول أن يتسلل إلي قلوب الأقباط هناك, لكنهم لم يكونوا قد نسوا ما لاقاه إخوانهم من التعذيب والتقتيل بأيدي الفرسان القسس في كل مدينة وقرية مروا بها في مصر, فلم يستجيبوا له, مما اضطره إلي الرحيل. واستنادا إلي الباحثة القبطية سميرة بحر: لقد أعرض الأقباط عن النظر إلي الغزاة علي أنهم مسيحيون, حتي أنه بلغ من شدة غيظ الصليبيين لعدم مساعدة الأقباط لهم, أن أصدروا قانونا يمنع أقباط مصر من زيارة القبر المقدس, بدعوي أنهم ملحدون. ومن ذلك الظلم الذي تعرض إليه البطريرك الأنطاكي الأرثوذكسي, ولم يرد إليه اعتباره إلا القائد صلاح الدين الأيوبي ولما استقر الصليبيون في القدس, قاموا بالتنكيل بأسقف القدس العربي المسيحي, وجردوه من أمواله ومن سلطاته جميعا, وإذا كانت المحاولة لتصفية المسيحية الشرقية العربية خلال الحروب الصليبية لم تنجح, لكنها سمحت بإقامة أولي علاقات التبعية اللاهوتية والفكرية بين مسيحيي المنطقة وبين الغرب المسيحي. وفي العصر الحديث, وفي كنف الإرساليات والمبشرين والمدارس والعسكر, استطاع الغرب أن يفتت المسيحية الشرقية العربية ويضربها من الداخل, مما نتج عنه مجموعة من الطوائف الشرقية التابعة للغرب, والتي استخدمت أو جرت محاولات استخدامها في تأكيد السيطرة الغربية علي الشرق العربي, وقد نتج علي هذا المستوي محاولة لأخذ المسيحية الشرقية من الداخل, عبر محاولة تصفية طابعها الشرقي, وعبر ضربها لاهوتيا. وخلاصة القول, إن الخلاف بين الشرق والغرب المسيحي, لايرجع لسبب غير كون هذا غربا والآخر شرقا, وقد درج كتاب الغرب ومؤرخوه علي تسمية مسيحيي الشرق بالمشارقة, ليعزلوهم بهذه التسمية حتي في صفحات التاريخ, بيد أنه من الثابت لدينا, أن أبرز ملامح الشخصية المسيحية الشرقية, أنها دائما شخصية كريمة سامية شريفة طامحة, لاتقبل الاستذلال ولاترضي بالمهانة, ولاتخضع للاستكانة, وطريقة معالجة البابا شنودة الثالث لتداعيات أحداث كنيسة القديسين في الاسكندرية نموذجا, فهي لاترد علي ماتفوه به البابا القابع في الفاتيكان إرضاء لمركزي الصهيونية في واشنطن وتل أبيب فحسب, بل تجسد أيضا نموذج للتحلي بالمسئولية التي غابت عن بال بابا الفاتيكان ومن والاه.