يصعب علي المرء أن يجد تعبيرا عن حب الوطن أكثر بلاغة من تلك الجملة البديعة التي ارتبطت باسم البابا شنودة! "مصر ليست وطنا نعيش فيه.. بل وطن يعيش فينا". وحينما تقرأ الكتاب الضخم الذي جمعت فيه زميلتنا اللامعة سناء السعيد أحاديثها الصحفية مع البابا علي مدي نحو عشر سنوات فإنك ستزداد اقتناعا يعمق وطنية هذا الرجل الكبير وانتمائه الراسخ عميق الجذور لأرض مصر وشعبها بمسلميه ومسيحييه، وشعوره الرفيع بالمسئولية عن حاضر ومستقبل هذا الوطن وأهله جميعا.. وإذا كانت الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية دائما أحد أعمدة الوطنية المصرية، فإنك ستجد في كلمات البابا شنودة وموقفه وعيا شديد العمق بأهمية تلاحم أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، ووحدة ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وضرورة نبذ كل محاولات التفرقة بينهم وشق صفوفهم، سواء جاءت من "الخارج" أو من جانب نفر متطرف أو متعصب أو قاصر الفهم، سواء كان هذا النفر مسلما أو مسيحيا. مواقف البابا العروبية الساطعة تجدها في كل أحاديثه، وتهتم زميلتنا الكبيرة سناء السعيد بإبرازها، وفي مقدمتها دعوته الدائمة لوحدة وتضامن الشعوب والدول العربية كشرط جوهري لتعزيز قدرة العرب علي مواجهة الأطماع الاستعمارية في وطننا العربي والعدوان الذي تتعرض له شعوبنا جميعها، خاصة الشعب الفلسطيني الذي اغتصب العدوان الصهيوني وطنه، والذي يؤيد البابا شنودة بحرارة حقه في المقاومة، ويدين بقوة الاعتداءات الصهيونية الوحشية عليه، وحصارها الهمجي له، وتجويعها لأبنائه - كما يدين رأس الكنيسة القبطية بكل حزم العدوان الأمريكي علي شعب العراق، ويؤكد مرارا وتكرارا أنه لا سبيل لرد العدوان إلا بقوة العرب التي لن تصنعها إلا وحدتهم. وتؤكد أحاديث البابا بوضوح موقفه الرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني، ورفضه القاطع لقيام المسيحيين الأرثوذوكس بالحج إلي القدس مادامت تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومادام إخوانهم المسلمون رافضين للتطبيع.. ولا شك في أن هذا الموقف الوطني والقومي الذي يتخذه البابا شنودة له أثر حاسم في إفشال مؤامرة التطبيع التي تحاول الدولة الصهيونية تمريرها، ولنا أن نتصور الموقف لو أن ملايين الأقباط كانوا يحجون إلي القدس ويمهرون جوازات سفرهم بخاتم العدو المحتل طوال السنوات الماضية.. والأمر المؤكد أن هذا الموقف المشرف من أهم أسباب احترام ومحبة جميع الوطنيين والعروبين في مصر والوطن العربي كله للبابا شنودة. احترام عميق للإسلام معرفة البابا العميقة للدين الإسلامي والقرآن الكريم من الأمور المعروفة علي نطاق واسع، وكذلك عمق احترام البابا لعقيدة المسلمين، لكن ما يلفت النظر بقوة في أحاديثه مع سناء السعيد هو ذلك التبحر الواسع في معرفته بأدق جوانب العقيدة الإسلامية، والشريعة، واستشهاده المتكرر بآيات القرآن الكريم، وكذلك معرفته الواسعة والعميقة بتراث الفكر الإسلامي في الزهد والتصوف، بما في ذلك الشعر، واستشهاده بشعر أبي العتاهية وغيره.. والواقع أن أسئلة سناء السعيد في هذا المجال لها دور كبير في إتاحة المجال لا لاتساع إبحار البابا في هذه الآفاق الرحبة للتراث الإسلامي، فزميلتنا الصحفية والكاتبة الكبيرة المتمكنة من موضوعاتها تأخذ المتحدث والقارئ علي السواء بعيدا إلي أعماق للفكر والتساؤلات الفلسفية غير مألوفة في الأحاديث الصحفية السطحية المتعجلة.. فتتيح لضيفها الكبير أن يفيد القارئ بثقافته الموسوعية الرفعية، ومعرفته العميقة بالأديان والمذاهب والمقارنة بينها، وتاريخ ظهور وتطور بعضها، وثمار تأملاته العميقة والخصبة حول قضايا بالغة الأهمية كمغزي حياة الإنسان، وطبيعته، والحياة والموت، وحب الإنسان لله سبحانه وتعالي ولإخوته من بني البشر، والخير والشر، والطاعة والزهد وغيرها من القضايا الكبري التي يتحدث فيها البابا بتمكن المفكر الكبير وببساطة يمكن أن نقول عنها: "السهل الممتنع".. الذي يجعل أكثر القضايا تعقيدا في متناول القارئ العادي للصحف السيارة.. ولاشك أن هذا ذكاء كبير من جانب سناء السعيد ودليل علي حرفيتها الرفيعة وقدرتها علي استخراج اللآلئ الثمينة من كنوز معرفة محدثها ولسنا بحاجة إلي القول بإن الصحفيين الكبار والتمكنين فقط هم الذين يقدرون علي ذلك. قضايا شائكة.. وأسئلة ساخنة نتيجة للتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية العاصفة في مصر والمنطقة خلال العقود الأخيرة، والتي تزامنت مع فترة تولي البابا شنودة لمنصبه الديني الرفيع كبطريرك للكنيسة القبطية الأوثوذوكسية في مصر، فإن البابا كان من الطبيعي أن يجد نفسه في بؤرة مواقف شديدة التعقيد ناتجة عن هذه التطورات من ناحية،