ما إن تطأ قدمك مشرحة مستشفي دمنهور العام تشعر بالنظرات الحزينة المنكسرة إلي الأرض الجفون المرتعشة في عصبية.. الشفاه التي تتمتم طوال الوقت.. أصابع الأيادي المبسوطة والمرفوعة إلي السماء الماسحة للأوجه المبللة.. الأتربة التي تعلو الرءوس.. النحيب الممزق للقلوب, الأصوات الممزوجة بالبكاء من الكبار يشاركهم الأطفال الملتصقون بهم.. كلها مشاهد تحتاج عدسة غير عادية وآلة تسجل أكبر لوحة للحزن علي المفقودين, وتحصر أنفاس وشهقات الألم العميق والخسارة التي لا يعوضها شيء كما نطق الحزاني.. الغضب المكتوم في صدور الأهالي وزفيرهم فاق البرودة المقيتة التي تحف كل مكان بالمشرحة حتي خارجها.. صرخات وعويل المجروحين في قلوبهم إثر فقدهم أبنائهم لا ينقطع.. ومن بين كل المشاهد واللعنات المبكية يحتار العقل وتتوقف الأصابع في وصف لا يعادله أي مشهد للحزن الكامل لأب.. وأم تنتظر في صبر وجلد.. تئز أسنانهم ويئن قلوبهم من دون صوت في انتظار التعرف علي جثمان الابن أو البنت التي تفحم جثمانه واختفت أي معالم يعرف بها, دقائق وساعات من الهدوء والأنين البطيء إلي أن يرتفع صوت الممرضة بالمستشفي باسم الضحية فينفجر بكاء ذويه. ويتحرك الأب أو الأم في بطء بخطوات ثقيلة مصحوبا بالصرخات.. يقف أصعب لحظة في حياته تري ماذا سمع, ماذا دار بينهما من وداع؟.. دقائق ويعود في إحباط كبير.. وسط نظرات الأقارب غير المصدقين.. ولكنها الحقيقة المفجعة.. لم يتعرف الأب أو الأم علي ابنهما الضحية. وعليهما انتظار تحليلDNA للفصل في نسبه وتسليمه لذويه.. صرخاتتدوي من جديد في جنبات المستشفي تتحرك إحدي الأمهات من جديد تلبية للنداء علي اسم ابنتها والتي تفحمت جثتها أيضا وتحتاج من يتعرف عليها.. دقائق ميتة بطيئة من جديد تحسبها الأعين المنتظرة المتعامدة علي الساعة الوحيدة في الممر أمام بوابة المشرحة.. تصرخ الأم صرخة مكتومة.. ف السلسلة الذهبية كانت الدليل الوحيد لمعرفتها وهي تتدلي في سكون من رقبة فلذة كبدها شاهدة في صمت علي جريمة الإهمال الجسيم.. مين الولد.. مين البنت علي جذع أحد الأشجار وقف والد الضحية إيمان بمفرده تواسيه دموعه وتغلفه أحزانه وتحيط به العديد من علامات الاستفهام بعد أن فشل في التعرف علي جثة نجلته رغم إطلاعه علي الجثامين عدة مرات, حيث قال إنه أول مرة في حياته يدخل مشرحة لا يعرف فيها الولد من البنت بعد أن التهمت النيران معالمهم وتحولت الجثث إلي قطع من الفحم.. أكد أنه رغم علمه اليقين أن نجلته ذهبت إلي المدرسة واستقلت الأتوبيس مع زميلتيها مريم وشيماء وأنها ضمن الجثث المتفحمة فإن الآمال تراوده بأن لا تكون ضمن الضحايا بعد فشله في التعرف عليها. نوبتجية قسم عم الضحية محمود رضا الطالب بالصف الأول الثانوي أفراد الأسرة الذين توافدوا إلي المستشفي بعد أن فشلوا في التعرف علي جثة نجلهم لطمس النيران معالم12 جثة إلي ثلاث مجموعات بما يشبه النوبتجية حتي يوجدون بالمستشفي علي مدي24 ساعة لحين وصول نتائج تحاليلDNA علي أن تقوم المجموعة الموجودة بالمستشفي بإخطار أفراد الأسرة فور حصولهما علي أي معلومات. العم وجد صعوبة في توزيع النوبتجية بعد أن طلب أكثر من20 فردا الوجود بالمستشفي إلا أنه قام باختيار ستة أفراد تم توزيعهم علي ثلاث مجموعات بواقع فردين كل8 ساعات. الفتك بعامل المشرحة وسط حالة من الصمت.. سادت أسر الضحايا أمام المشرحة.. علت الأصوات.. وانفجرت الطاقات المخزونة.. وسقطت الدموع التي تحجرت داخل العيون لتنهمر بغزارة.. ليتجمع الجميع أمام بوابة المشرحة محاولين الفتك بأحد العاملين بها بعد أن شاهدوا البعض يقوم بإلقاء أشلاء من أجساد الضحايا بعد أخذ عينات منها.. حيث قام العامل بجر ترولي يحمل الأشلاء ليلقيها علي الأرض بجوار إحدي الأشجار بالحديقة المواجهة للمشرحة دون أن يضعها في أكياس أو أي شيء آخر.. وتمكن بعض أمناء الشرطة الموجودين بالمستشفي لتأمينها من إنقاذ الموظف بأعجوبة لتصرخ والدة الضحية مريم قائلة.. هو لحمنا أصبح رخيصا لهذه الدرجة.. ويرموا لحم أولادنا للكلاب والقطط أمام أعيننا وشاركتها شقيقة مريم التي كانت تقف بجوار أمها.. مش عاوزين تعليم.. عاوزين مريم.. ارجعي يا مريم.. عملت فينا كده ليه.. ربنا يسامحك.. استياء أسر الضحايا صب بعض أسر الضحايا غضبهم علي محافظ البحيرة الذي حضر إلي المستشفي برفقة المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء لزيارة المصابين وتقديم واجب العزاء إلي أسرة الضحايا بعد أن أتي بتلاميذ أحد المدارس الابتدائية حسب رواية الأهالي ليهتفوا له وكأنه جاء لافتتاح مبني أو مستشفي وليس لمواساة أسر الضحايا. كما صبوا أيضا غضبهم علي رئيس مجلس الوزراء الذي يعلم جيد إمكانيات مستشفي دمنهور الضعيفة دون أن يحضر معه طاقم من الأطباء الأكفاء لمتابعة حالات المصابين أو إحضار أطباء متخصصين للحصول علي عينات من الطلبة التي غيرت معالمهم النيران, وأجهزة لتحليل العينات في دمنهور بدلا من إرسالها إلي القاهرة لتحليلDNA. وارجعوا سبب غضبهم إلي أن المستشفي قامت بأخذ عينات من الجثامين التي لم يتعرف عليها أحد, وعددها12 عينه, وحتي مساء أمس لم ترسل إلي القاهرة وبذلك سوف ينتظر أسرة الضحايا داخل المستشفي يومين علي الأقل لحين تحليل العينات ووصول النتائج إلي المستشفي. ليس ابني! انتظرت أسرة الطالب محمد شوقي أبو شنب تسلم تصريح الدفن وجثمانه للانتقال إلي مدافن الأسرة لوضعه بمثواه الأخيرة بعد أن تعرف عليه بعض أقاربه.. ولكن والده الذي لم يستطع رؤيته في المرة الأولي أصر علي إلقاء نظرة الوداع علي نجله, ليتحامل علي نفسه ويدخل المشرحة بعد أن أحاط به نجلا شقيقه من الجانبين. وقبل أن يرفع الغطاء عن هه شاهد أن فخذ رجله اليمني أطول من اليسري.. ليصرخ الرجل: ده مش ابني.. ده مش ابني.. ابني حي.. ابني عايش ليسرع الطبيب ليخبر الرجل أن الجثمان لطالب آخر ليس ابنه. تعجب الطبيب من أن الفخذ الأيمن أطول من الأيسر ليفاجيء بأنه وضعت القدم اليسري علي الجثة التي لم يجدوا بها سوي قدم واحدة, وأسرع بإحضار المتر ليقيس الفخذين ويتأكد من صحة كلام الرجل الذي خرج وهو لا يعلم أين نجله.. فطلب منه الطبيب أن يلقي نظرة علي الجثامين التي أضاعت معالمهم النيران فلم يتعرف عليه.. ويخرج من المشرحة وهو في حالة ذهول من هول ما شاهده داخل المشرحة. أنت فين يا جوزيف أصوات عالية سمعها كل من وجد من المستشفي كانت عبارة عن جملة واحدة أنت فين.. يا جوزيف.. وقف عم الطالب جوزيف رسمي حائرا.. عيونه زائغة.. وجهه مصفر.. جلس علي الأرض بعد أن أنهكه التعب والبحث مع أفراد عائلته علي جوزيف. قال: منذ الساعة العاشرة صباحا وحتي مساء أمس ونحن نبحث عن جوزيف دون جدوي.. فقد دخلنا المشرحة أكثر من مرة بصحبة بعض الأقارب للتعرف علي جثته فلم نجدها.. ذهبنا إلي المدرسة لعله يكون قد استقل وسيلة مواصلات أخري بعد أن لم يلحق أتوبيس المدرسة فلم نجده.. عدنا إلي المنزل لعله يكون قد عاد فلم نجده.. سمعنا أن هناك طالبا قفز مع السائق قبل انقلاب الأتوبيس فبحثنا عنه في كل مكان فلم نجده.. جوزيف ارجع احنا منتظرينك مش هنمشي من المستشفي حتي نجدك بين أيدينا حيا أو شهيدا. التف حوله بعض أقاربه لإعادته إلي منزله خاصة أنه تخطي العقد السادس من عمره إلا أنه رفض.. سقط علي الأرض عدة مرات حتي تمكن شقيقه من حمله ونقله إلي داخل سيارة كانت تقف أمام باب المستشفي ولكنه لم يكف عن النداء.. انت فين.. يا جوزيف.. انت فين.. يا جوزيف.. ياحسرة قلبي عليك يابنتي ياحسرة قلبي عليك يابنتي.. ازاي مش هشوفك تاني يامنال.. كلمات رددتها والدتها بحرقة وهي في احضان شقيقتها التي كانت تمسك بها حيث قالت الام الثكلي.. علمت بالحادث من احد الجيران فأسرعت الي المستشفي وانتظرت امام المشرحة عدة ساعات حتي قام بعض العاملين باستدعائي للتعرف علي جثة ابنتي.. دخلت المشرحة وانا في حالة ذهول غير مصدقة ماسمعته وماحدث و.. تفقدت الجثث التي تشابهت بعد ان تغيرت ملامح معظمها.. وقفت عند إحدي الجثث ونظرت اليها جيدا فشعرت بوجع في قلبي ولكني عقلي اخبرني انها ليست ابنتي.. فقمت بفتح فمها لان منال كانت حاشية درسين فلم اجد اي اسنان..وخرجت من المشرحة دون ان اعطي كلام واضحا للطبيب بالتعرف علي ابنتي.. انتظرت في الحديقة المواجهة للمشرحة عدة ساعات حتي استدعوني مرة اخري. وجلست في الغرفة المجاورة للمكان المواجد به الجثث ليخرج لي الطبيب سلسلة ذهبية وقال لي تعرفي السلسلة ديه..فصرخت وخرجت دموعي المتحجرة وتعرفت علي السلسلة وقلت بتاعة ابنتي.. لكن شقيقي طلب من التمهل حتي نتأكد من انها جثة منال ولكني اكدت انها هي تعرفت عليها من اول لحظة في المشرحة لكن كدبت نفسي.