تحدثنا الأربعاء الماضي عن العوامل المشتركة التي تجمع بين هتلر وأحمدي نجاد وتشابه الأجواء الدولية التي وفرت لكل منهما مبررات الحلم الإمبراطوري, وإذا كانت الصفحة الأخيرة من تاريخ الزعيم النازي قد كتبت شهادة ميلاد النظام العالمي الذي قام علي أنقاض الاستعمار القديم, فإن الأمر يتكرر مع الرئيس الإيراني الذي ستكون بلاده نقطة التحول سلما أم حربا للعالم الجديد بعد فشل الولاياتالمتحدة في القيام بمسئولياتها كقوة عظمي وحيدة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. ارتكزت السياسة الأمريكية دائما إلي قاعدة بالغة الأهمية وهي تأمين مصادر النفط القادم من منطقة الشرق الأوسط, خاصة في الخليج حيث المنابع الرئيسية, والمخزون العالمي الذي يمثل شريان الحياة للنهضة الصناعية الكبري التي استطاعت أن ترسم ملامح الحلم الأمريكي وتجعله نموذجا يحتذي في العالم. وظل الاحتكار الأمريكي للسوق النفطية الخليجية علامة فارقة وصامدة رغم الصراع التقليدي الذي نشب بين القوتين العظميين في حقبة من الزمن, كما تجاوزت المعطيات السلبية للقضية الفسطينية بالنظر إلي الانحياز الأمريكي التقليدي لإسرائيل وما ترتب عليه في حرب أكتوبر من قطع الإمدادات النفطية لفترة من الوقت, وكان ذلك أعلي مستوي لانحراف المؤشر عن المصالح الأمريكية في المنطقة. عندما عاد البترول العربي إلي التدفق من جديد, لم يكن كسابقه وانتهت وإلي الأبد الضوابط الحاكمة لأسعاره, وشهدت السنوات اللاحقة زيادات وطفرات جعلت من البترول سلعة استراتيجية ليس فقط للولايات المتحدة, وإنما لجميع الدول الأوروبية والآسيوية التي استشعرت خطورة استمرار الاحتكار الأمريكي, بالإضافة إلي الانعكاسات السلبية لمواقف واشنطن السياسية لضمان استمرار إنتاج النفط وعدم اللجوء مرة أخري إلي التهديد بقطع إمداداته التي لا غني عنها. وتزامن ذلك كله مع يقظة المارد الأصفر العملاق الذي بدأ يفيق من غيبوبته ويعود إلي وعيه مطالبا باستحقاقاته من النفط اللازم والضروري لنهضته الاقتصادية. وخالفت الصين كل التوقعات وأذهلت العالم بقدرتها ليس فقط علي النهوض وإنما القفز إلي مراكز متقدمة وبسرعة فائقة لتكون واحدة من الدول الصناعية الكبري وبكل ما يترتب علي ذلك من احتياجات متزايدة ونفوذ يتعاظم في شتي البقاع. وهنا حدثت الخطيئة الكبري التي سرعان ما ارتدت إلي صاحبها حين أراد بوش استثمار التفرد الأمريكي بقيادة العالم للسيطرة علي بقية منابع النفط في المنطقة تحت شعارات زائفة, من خلال الحرب العالمية ضد الإرهاب التي أعلنها فور وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر. أراد بوش وحليفه الرئيسي, آنذاك, توني بلير أن يضعا الدول الصناعية والصين تحديدا تحت نفوذهما السياسي والاقتصادي عندما يقومان بالاستيلاء علي البترول العراقي ومن بعده الإيراني حسب ما كانت تشير خريطة محور الشر. لم يستند قرار غزو العراق إلي أي حقيقة علي أرض الواقع بصرف النظر عن جنوح نظام صدام حسين, ولم يكن هناك سوي تفسير واحد تؤكده الحقائق التي يتم الإعلان عنها بمرور الأيام, وهو أن قرار الغزو قد تم اتخاذه قبل عام كامل من وقوعه وقبل الحكايات التي قيلت كذبا عن أسلحة الدمار الشامل. والسؤال الذي يفرض نفسه هل كانت الصين مثلا, وهي القوة العظمي, أن تضع أحلامها في النهضة والتقدم رهينة لمغامرات بوش وحليفه بلير, وأن تنتظر إلي أن يفرضا عليها شروطا قاسية لضمان إمدادات النفط, فضلا عن أسعاره التي رأيناها تتجاوز الأرقام القياسية وتتخطي حاجز المائة وخمسين دولارا للبرميل الواحد, عقب الغزو, دون أن تصدر صيحات الغضب الأمريكية التي كانت تتعالي في وقت سابق إذا بلغ السعر ما يقرب من الأربعين دولارا فقط. إنها إذن المصالح الاقتصادية والأطماع التي دفعت بإدارة بوش المتشددة لمحاولة السيطرة علي العالم من خلال بسط الهيمنة علي بقية الدول البترولية, ولم تكتف بما لها من حصة ثابتة في دول الخليج. ونستطيع أن نطرح سؤالا آخر يقول: من أين حصلت إيران علي تلك الأسلحة المتطورة والصواريخ المتعددة المراحل التي استطاعت أن تبث الرعب في قلب إسرائيل أثناء المناورة الإسرائيلية الشهيرة التي دفع ثمنها الشعبان اللبناني والفلسطيني نتيجة قراءة تعرف طبيعة السلوك العدواني الإسرائيلي مما يسهل استثارته وتوريطه. ومع انزلاق القدم الأمريكية في رمال العراق المتحركة والتكلفة الهائلة المادية والبشرية مما دفع الرأي العام الأمريكي للانقلاب علي بوش والإطاحة به خارج البيت الأبيض واختيار رئيس جديد يفتح صفحة جديدة ويتحدث عن السلام ويسدي النصائح ويكتفي بالجولات والأحاديث, وإرسال الوفود دون إنجاز حقيقي علي أرض الواقع. ومع إرث ثقيل يتمثل في أزمة مالية عاتية تعصف بالكيانات الاقتصادية العملاقة, وتوجد خريطة جديدة للاقتصاد العالمي حيث استطاعت الصين أن تحقق رقما قياسيا في معدل النمو في التوقيت نفسه الذي يسجل فيه العجز الأمريكي معدلا قياسيا هو الآخر, مما دفع المستشار الاقتصادي للرئيس أوباما أن يسأل بصراحة يحسد عليها وهو ما أشرنا إليه سابقا بقوله: إلي متي يستطيع أكبر مقترض في العالم أن يبقي القوة الأكبر في العالم؟ لقد تغيرت المشاهد علي مسرح الأحداث وتبدلت الأدوار, وبدلا من تهديدات بوش واستعراضه لعضلاته العسكرية أصبحت إيران الأكثر تشددا ولا تمر مناسبة إلا ويتحدث أحمدي نجاد وغيره من قيادات طهران عن الانكسار الأمريكي وزوال إسرائيل دون أن نري جلسات عاجلة لمجلس الأمن, ولا قرارات تدخل تحت البند السابع الشهير. حتي إسرائيل بات قادتها يتحدثون عن ضرورة تحقيق السلام بأسرع وقت ويذهب وزير الدفاع باراك إلي أبعد من ذلك حين يؤكد أن السلام مع الفلسطينيين هو الأهم من الملف النووي الإيراني. هكذا تبدو موازين القوي الجديدة, ليس في المنطقة وحدها, وإنما في العالم بأسره, وهكذا تتجه الأحداث إلي مرحلة مختلفة حينما أعلن الرئيس الإيراني عن بدء تخصيب اليورانيوم أكثر من20%, ويقول صراحة إنه يستطيع أن يجعلها80%, وأن بلاده تستطيع إنتاج السلاح النووي لكنها لا تريده. القضية هنا أعمق وأشمل من كونها خلافا حول توجهات إيرانية قد تشعل حربا علي غرار ما فعله هتلر, وإنما تتعلق بالحسابات الدولية الجديدة التي باتت تفرض تغييرا جذريا في قواعد اللعبة التي تمسك الولاياتالمتحدة, حتي الآن, بعناصرها الأساسية وفي مقدمتها مخزون النفط في الخليج. وبوضوح أكثر نقول إن المصالح الدولية قد جعلت من إيران وسيلة التفاوض مع الولاياتالمتحدة وصولا لاتفاق جديد يحقق مصالح أطراف أخري تطالب بنصيبها العادل في اتخاذ القرارات المصيرية التي ترسم ملامح العالم الجديد. والمؤشرات الراهنة تؤكد نجاح تلك الأطراف في إجبار واشنطن علي التفاوض والتريث إلي الدرجة التي دفعت وزيرة الخارجية الأمريكية إلي القدوم للدوحة لعقد اجتماع مغلق وسري مع وزير الخارجية التركية قبل توجه الأخير إلي طهران. والدور التركي سيكون مستقبلا اللاعب الأساسي, سواء عند الحرب بالنظر إلي وجود القواعد العسكرية والمجال الجوي لمهاجمة إيران, كما حدث في العراق, وإذا ما تم التوصل إلي صفقة ما حيث تستطيع تركيا, الأوروبية الهوي والإسلامية الهوية, أن تمررها بين دول المنطقة, وفي كل الأحوال فإن انهيار الجدار العازل الذي أقامته واشنطن لحماية مصالحها في الخليج سيجعل من العراق بوابة العبور لتغيير جذري في المنطقة حيث تخرج إلي الوجود كيانات سياسية تدغدغ مشاعر الأقليات في دول الخليج وعلي وجه التحديد الأقلية الشيعية تماما كما جري الأمر مع الحوثيين في اليمن. ومع اكتمال تلك المشاهد تكون النهاية للعرض السياسي الراهن الذي استمر منذ انتهاء الحرب العالمية, لتخرج إلي الوجود سيناريوهات جديدة وقد تبدلت أدوار النجوم في النظام العالمي الجديد. [email protected]